الفصل الرابع : القلب المتسخ خلف البذلة النظيفة

كانت خطوات كارل تُحدث صدى فارغًا في الممر الحجري، وكأن الأرض نفسها تسخر من صمتِه الثقيل. تسير معه بدلته الفاخرة، تلك التي لا تعني له شيئًا سوى أنها قيوده المصقولة. في عينيه انعكاس عالمين: الخارج الذي يراه الناس، والداخل الذي لا يراه أحد، حيث الغضب مكتوم، والرفض مختنق في صدره مثل طائر مذبوح ما زال يرتجف.

كُلّف من الملك لوكاس بتفقد حال القُرى، لكنه يعرف الحقيقة جيدًا… لم تكن زيارة، بل جولة إعدام ببطء. كانت الأوامر واضحة:

"ارفعوا الأسعار، دعوا الجوع يعصرهم حتى يتمنوا الموت."

بدأ يكره صوته حين ينطق، ووجهه حين ينعكس على زجاج النوافذ.

مرّ بين الناس، الفقراء يرمقونه بنظرات مسمومة، والجهلاء ينحنون له وكأنهم رأوا المُخلّص... يا لسخرية القدر. وكذلك من حوله الاطفال يبيعون المناديل لأشباح المارة ولا احد ينظر إليهم حتي وكذلك هم يعرفون مصيرهم من زعمائم إما التعذيب جسديا أو نفسيا إما منعهم من الطعام والغذاء أسبوعا كاملا. وهذا رجل يجلس قرب النفق منذ ثلاثين عاما يتأمل وجوه الداخلين والخارجين ويقول كلما رأي أحدهم : القلب المتسخ لا تطهيره بذلة من حرير بل قد يخفي جرما عمق من الدم . وهو الذي لا يقدر أن يخلّص حتى نفسه. أدار وجهه عنهم، لا لاحتقار، بل لعجز لا يُحتمل.

دخل كارل النفق... حيث الدم لا يجف، والجثث تُعَلَّق كأنها لوحات لعالم مريض وقاسي .

توقّف.

طفل.

ضئيل. جسده يرتجف، عيناه تطلبان الرحمة.

قال الطفل بصوت مختنق:

"أرجوك، لا تؤذِني... لقد ضللتُ طريقي، ولا أجد أمي..."

للحظة واحدة... شعر كارل بالاختناق.

لكنه لم يظهره.

أمسك الطفل من عنقه بقسوة، كأن القسوة درعه الأخير:

"لا تَعُد إلى هنا مرةً أخرى... إلا إن أردت أن تُصبح واحدًا من هذه الجثث."

ركض الطفل. ابتعد. لكن صوته ظلّ في أذنيه، مثل صدى قديم لطفولته التي دفنها بنفسه. وعندما كان الطفل في طريقه الذي لا يعلم أين آخره ولا يعلم مصيره وكان الجوع يقتله فيري قطعة خبر صغيرة بين جثة جدة عجوزة متآكله فنظر إليها برعب وأخذ الخبر المغطي بالدماء وركض رعبا وخوفا .

نظر كارل إلى الدماء حوله، ثم قال لتشارلي بصوت خافت:

"أكمل المهمة. لقد اكتفيت."

ثم أكمل طريقه... لا يعلم إلى أين، لكنه يعرف جيدًا ممّن يهرب.

جلس كارل في زاوية الغرفة، يعتصره صمت ثقيل يقطر مرارة. تتدفق الأفكار في رأسه كالسكاكين، كل واحدة منها تغرز في ضميره الذي ظنه مات منذ زمن.

قال لنفسه بصوت بالكاد يُسمع:

"لا أصدق... أن هذا الوغد قد ربّاني على سفك الدماء."

كانت صورة أمه لا تفارقه... عيناها الهادئتان، يداها المرتجفتان وهي تودّعه ذات مساء، قبل أن تُطفأ أنفاسها في عالمٍ لا يعرف الرحمة.

"تركتني وحدي، أمي... وحدي في عالم يشبه الجحيم، علموني فيه أن الحياة لا تُشترى إلا بالدم."

أمسك أحد الكراسي ورماه بجنون، تبعته الصحون والمرايا وكل ما حوله، صوت التحطم كأنه يحطم الماضي بداخله.

صرخ:

"ذلك الوغد... لوكاس! لقد صنع مني قاتلًا، جعلني أعيش على أنقاض الأبرياء، أعدّ الذهب وأدفن الإنسانية في كل صفقة!"

انهار على الأرض، كل شيء داخله يصرخ. دموعه سالت أخيرًا، حقيقية، ثقيلة، مرة...

بكى حتى لم يعد في قلبه طاقة على الألم، وغلبه النعاس وهو جالس على أرض الغرفة بين الزجاج المهشم وبقايا ما كان يسميه نفسه.

"وفي عالمٍ علّمه أن القسوة بقاء، لم يكن يعلم أن قلبه لا يزال يبكي في صمت... رغم اتساخ يديه بالدم."

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon