| حطام |

| حطام |

هروب من الماضي

## حطام ##

هل يمكن لفكرة أن تقتل شخصًا؟

أم أنه قد يموت تحت تعذيب صدى تكرارها؟

حسنًا، أنا كاتب الرواية. لا أحب المقدمات أو تقديم أي معلومات عني، وهذا لن يهمك بأي حال.

فقط أردت أن أقول إن ما ستقرأه ليس لي، لأنني لست كأي كاتب يروي روايته بنفسه وهو يخطها على الورق.

أنا لن أروي الحطام، تفكيري سيتكفل بذلك.

لا بأس إن ظننتني أهذي، ولكني شخص يفصل تفكيره عن ذاته، يمنحه كيانًا مستقلاً، يمنحه رؤية خاصة ومبادئ قد تخالف حتى ما يريده.

وهذا ما جعلني في صراع دائم مع عقلي.

ربما لن تصدق هذا، وأنا أيضًا كذلك.

سيصعب عليك فهم الامر إلا إن كنت مثلي،

شخص قدّس أفكاره حتى نسي أنها مجرد أفكار،

وأصبح يترجاها أن تتوقف عن ثقب رأسه.

إنه جنون .......أنا أنقاد إلى الجنون.

** البداية  **

أمريكا، ٢٧ مايو

هذه الطريق طويلة، طويلة جدًا... وخالية حد التلاشي.أمسك بالمقود وكأنني أتشبث بشيء لا يُرى.

أديره بهدوء، فيما تتبع عيوني ذلك الخط الأبيض المتقطع كأنه نبض قلبي، بطيء، رتيب، يزحف على الإسفلت الجاف.

أقود منذ زمن لا أعرف كيف مضى،الوقت هنا لا يُقاس بالساعات، بل بالخواء.

لم تلمح عيناي سيارة واحدة، فقط صوت المحرك المنخفض يرافقني، وصدى أفكاري الثقيلة.

فتحت النافذة رغم أشعة الشمس التي غمرتني بسطوتها، كنت أرغب في تنفس شيء ما غير الصمت ..

نسمة تحمل شيئًا من الحياة مثلا ، تذكرني بأني ما زلت هنا ، وتكون اكثر صدقًا مما وجدته في السهرات الباذخة او في ضجيج المهرجانات، خلف ستائر المسرحيات اللامعة، أو حتى في تلك الرحلات التي بدت كأنها مصممة لتخدير الحواس.

ربما كل تلك الأماكن لم ترق لي ... لانها كانت ممتلئة بالناس... بالوجوه، بالابتسامات المتصنعة.

وبينما كنت أبحث عن نفسي

أضيع بينهم.

لا أُمقِت أحدًا، ولا أمانع وجود الجميع، ولكن أحبذ الهروب من ذلك الصخب الذي يلقبونه بالحياة،

أحبذ ذاك الهامش الهادئ من العالم، حيث تشعر بالوجود كما يجب أن يشعر به.

لن أبيت الليلة في منزل عمي، ولن أعود إليه مجددًا.

أنا في طريقي لمنزلي الجديد... أو ربما القديم.

منزل بسيط، لا يوجد فيه ما يبهر، لكنه يشبهني، يعاكس تمامًا ذلك القصر الفاخر الذي عشت فيه.

ذلك البناء الصلد المترامي ، لا يرحب بك  بل يستعرض نفسه عليك ،  أثاثه من أغلى الطرازات، لكنه لا يحمل ذاكرة

كنت أعيش فيه محاطة بأعداد لا تحصى من الخدم والحشم والحراس...

أشخاص يعبرون أيامي بصمت، لا أعرف أسماءهم، ولا أحفظ ملامحهم، رغم أنهم كانوا وجهي اليومي طيلة ثمانية عشر عامًا.

ربما لأنني لم أكن يومًا معهم، بل بينهم لا أكثر.

ثم هناك عمي... شخص يحمل اسمه صفة القرابة، لكن لا شيء في حضوره يشبه العائلة.

لا أراه إلا مرات قليلة في السنة، تعد على الأصابع، لا يتكلم كثيرًا، ورغم هذا لا يزال من المريح عدم سماع صوته الذي لا يكتسى سوى بالاوامر الباردة او الصراخ العالي

لا أتذكر أنني أمضيت وقتًا معه في مكان غير قاعات التدريب، حيث تُصهر إرادتي على نار الصرامة، أو في عيادات الأطباء، لا أعرف حتى لماذا كنت أزورها.

لم يكن يشرح شيئًا، كان يكتفي بأن يأخذني، ويقف وراء الزجاج يراقبني، وأنا كعينة يُفحص تفاعلها تحت مجهر حديث.

وحدي الآن على هذا الطريق، وحيدة.

لا أدري إن كنت هاربة أم عائدة، لكن ما أعلمه جيدًا، هو أن هذه العزلة رغم قسوتها، أرحم من وجود لا أشعر فيه بشيء.

وها أنا أخيرًا في هذا الحي، شوارع هادئة، تتخللها إضاءة خافتة كمن تخجل بالبوح بوجودها.

محلات صغيرة ببساطة، يدخلها عدد قليل من الناس، يعرفونها أكثر مما يعرفون أنفسهم.

ممرات ضيقة، لم أر مثلها من قبل إلا في بعض الأفلام القليلة التي شاهدتها، تشبه تلك التي تتحدث عن حيوات منسية.

بيوت عادية، لا تشبه ناطحات السحاب، غير متراصة أو متلاصقة، ولكنها متقاربة بشكل جميل، تفصل بينها فراغات ولو بمسافات قصيرة، ورغم ذلك تبدو شبيهة ببيت واحد، تعددت أبوابه.

وفي المنتصف... منزلي.

هل يعقل أنني سأعيش هنا؟

من الأقدار ما قد يفاجئك حقًا.

ركنت سيارتي بحذر، خشيت أن يصدر عنها صوت يلفت انتباه الجيران ، نزلت منها كشخص يجرب الوقوف لأول مرة

القيت نظرة متفحصة لجدران المنزل الخارجية...

جعلها الزمن سجناً متذمراً، وغطاها بالأغصان الذابلة وشبك العنكبوت.

تنهدت تنهيدة ثقيلة، أفرغ فيها فائض تعبي وإنهاكي، واستدرت نحو باب السيارة الخلفي،

مددت يدي لمقبضه وفتحته ، فإذ برأسها يسقط برفق على ذراعي...

إنها أمي.

تأملت ملامحها البريئة للحظات دون قصد .....عجبًا للزمان!

لعب بحياتي كمن يلعب بخيوط الدمى، فغدت أخرى لا أعرفها، ولم يقدر على المساس بهاته الملامح.

همست بهدوء، أحاول إيقاظها:

"أمي... هيا، لقد وصلنا."

أفاقت فزعة رغم صوتي الخافت، رمقتني بنظرة تعجب، ثم قالت بدهشة:

"وصلنا؟ حقًا؟ لم أشعر بمرور الوقت مطلقًا."

"هكذا إذن؟ ربما لأنك قضيتِه نائمة... هيا انزلي، علينا دخول المنزل."

تركتُها في السيارة. نزلت على مهلها، تجمع أفكارها وتتأمل تفاصيل الحي، بينما سرتُ أنا بخطى بطيئة نحو باب المنزل، أعبر حديقة صفراء العشب، يسكنها الصمت، كأنما فقدت حياتها منذ أزل بعيد.

وقفتُ أمام الباب، وحظيت بشرف أن أكون أول من يفك قفلًا سئم انتظار الزائرين.

دفعته ببطء محاولة فتحه، لأرى تجسيدًا للفوضى في أبهى صورها: عشرات القطع من الخردة، غبار كثيف كاد يحجب بصري، وهواء خانق لم تُفتح له نافذة منذ سنوات.

لم أشأ أن أمنح كسلي فرصة، وهممت بالتنظيف، غائصة بين الركام.

المكان أشبه برسالة كتبها الغياب وغادر بعد دخولي. لم أجد في الغبار ما يزعجني من قبل؛ فهو لا يقترب أكثر مما ينبغي، وأنا لا أطرده. لكنه الآن شاهد على حياة مرّت بهذا المكان.

صحيح أنها اختفت، لكن أثرها لا يزال عالقًا في الزوايا...

دليلٌ قاسٍ على الماضي، وأنا لا أريد الرجوع إليه، حتى لو لم يكن يخصني.

لذا مددتُ يدي بقطعة قماش أزيله بسرعة، وكأني أزيله من ذاكرتي، لا من الجدران.

كان صوت أمي يتردد من الغرفة المجاورة، يحمل ذلك القلق الأمومي الذي لا يهدأ، ثم اختفى لبرهة قبل أن يعود ناعمًا من خلفي:

_ نارمين... دعي عنك هذا التعب، لم لا نؤجل التنظيف للغد؟

أجبتُ دون أن ألتفت:

_ لا، لا داعي لذلك، أمي. هذا لا يحتمل التأجيل، لن نقضي أول ليلة هنا نتنفس الغبار. يمكنكِ الجلوس، لا تقلقي، سأتولى الأمر.

نظرت إليّ بعينين امتزج فيهما الحنان بالحيرة، وقالت:

_ نارمين... هل يريحك هذا حقًا؟

لا أحب الأسئلة التي لا أملك لها إجابات واضحة، لأنها لا تموت، بل تظل عالقة في رأسي تأبى أن تُنسى.

أسئلة تكشف ما أحاول إخفاءه، حتى عن نفسي.

لكنها أمي، ولا بأس بإجابة ناقصة كتوقّعاتي، أو مشوشة كتفكيري، واثقة بأنها ستفهمها.

_ لا أدري، أمي... لا أدري. أنا فقط أحاول العيش بهدوء، حياة عادية جدًا... معكِ، وهذا لن يحدث في منزل عمي أبدًا.

ما عشته في ذلك المكان لم يكن مثيرًا، بل مملًا أحيانًا... لكنه لم يكن سهلًا أيضًا.

وأنا... سئمت كل هذا.

اقتربت مني، وضعت كفها على رأسي وربّتت عليه كما كانت تفعل في صغري، ثم ابتسمت وقالت بصوت يعزف طمأنينة عذبة:

_ لا تقلقي... كل شيء سيكون على ما يرام. أنا أثق بكِ، صغيرتي.

رغم أني لا أتفق مع عقلية عمي، وأختلف مع كثير من طباعه، إلا أني أشبهه أحيانًا، في برودي مثلًا.

أخذت منه ما يكفيني لأبني حولي حصنًا لا يخترقه التأثّر.

لكن ليس معها... معها ألين، كطفلة صغيرة أمام حضنها، ولا أكره هذا أبدًا.

في الواقع، لا أستطيع التخلي عنه.

بادلتها ابتسامتها الجميلة، وواصلنا ما بدأناه سويًا.

الجديد

Comments

Jana Mousa

Jana Mousa

الرواية جميلة جدا استمري بإبداعك ❤️❤️

2025-06-21

1

الكل
مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon