وصلت إلى مبنى الشركة قبل الموعد بعشرين دقيقة.
شركة برمجة العاب ...لا علاقة لمبناها بالمرح
كان زجاجيًّا، مرتفعًا بلا غرور، مصقولًا كما يجب، لا يُعبّر عن شيء
كان كواجهة ذهنية لشيء بلا جوهر... كغلاف لرغبة قديمة بالانتماء.
دخلت.
الباب الزجاجي انفتح تلقائيًّا، كما لو أنه يعرفني.
الغريب أنني لم أشعر بالترحيب، ولا بالرفض.
شعرت فقط أنني عبرت إلى مساحة أخرى متقنة، هادئة، تخلو من أي ضجيج سوى ما تسمح به السياسة الداخلية.
الاستقبال أمامي: امرأة ببشرة خالية من التعبير.
ألقيت عليها نظرة سريعة لا شبهة فيها، أردت فقط أن أتأكد أنها من نوع البشر الذي يُدرّب على قول "أهلًا بك في أول يوم عمل".
قالتها فعلًا، بصوت منخفض يشبه قراءة بند في عقد لا أحد يهتم له.
أعطتني بطاقة مؤقتة، وابتسامة مؤقتة، ثم طلبت مني التوجه إلى الطابق السادس.
صعدت بالمصعد.
كنت وحدي، وهذه ميزة لم أطلبها، لكنها بدت ضرورية في تلك اللحظة.
المصاعد تشبه القبور الرأسية: صامتة، مغلقة، تُنقلك من مستوى إلى آخر دون أن تسألك إن كنت مستعدًّا.
تأملت انعكاسي في جدران المصعد اللامعة.
لم أرَ نفسي، بل خيالًا لشخص يرتدي الزي الصحيح، ويقف بشكل مناسب، لكنه لا يعرف إن كان صاعدًا فعلًا، أم عالقًا في صندوق معدني لا نهاية له.
"الطابق السادس."
قالها الصوت الآلي بلا روح.
خرجت.
الرواق طويل، الإضاءة بيضاء باردة، لا تمنحك دفئًا ولا تسمح بالخطأ.
الأرضية صلبة، والجدران عليها لوحات ملوّنة بلا فكرة واضحة، من رسمها قرّر أن الجمال مطلوب، لكنه لا يعرف كيف يصنعه.
مشيت بخطوات محسوبة، بعقل يراقب لا يشارك.
كل مكتب خلف زجاج، كل وجه خلف شاشة، كل شخص يكتب كأنه يكتب شيئًا مهمًّا.
ربما هم كذلك. أو ربما يتظاهرون بالجدية، كما أفعل أنا تمامًا.
دخلت إلى القسم المخصّص لي.
مساحة مكتبية من أربعة أمتار تقريبًا. مكتب، كرسي، شاشة.
بجانبي زميلة لم ترفع عينيها حين وصلت.
لم أستغرب، كثير من الناس يظنون أن البداية شيء داخلي لا يخص الآخرين.
وأنا لا أملك رغبة في كسر هذا التواطؤ.
جلست.
فتحت الحاسوب.
كتبت كلمة المرور التي أعطوني إياها.
بدأت... أو ما يُفترض أنه بداية.
لكن داخلي، لم يتحرك شيء.
ولا أعتقد أن هناك ما يجب أن يتحرك.
.............................................................. ...... ..... ....
لم تمضِ عشر دقائق حتى سمعت وقع كعب نسائي يتجه نحوي. خطوات متقنة، لا استعجال فيها، لكنها واضحة، لها وزن ونبرة.
توقفت عندي امرأة في الأربعين من عمرها، شعرها مرفوع بعناية، وملامحها مألوفة ، من ذلك النوع المألوف الذي لا يمكن تذكره لاحقًا.
نظرت إلي باحترافية، كما لو تعرف بالضبط ما الذي يفترض أن تقوله:
"الآنسة نارمين؟ المدير يرغب برؤيتك في مكتبه."
هززت رأسي بهدوء، وقفت دون أن أسأل "لماذا؟" الأسئلة الأولى عادة لا تؤدي إلى شيء.
رافقتها في الممر ذاته الذي عبرته قبل قليل . لكن الآن كانت خطواتي أبطأ قليلاً، ليس تردّدًا، بل توقفًا مؤقتًا بين ما أنا عليه، وما يُفترض أن أبدو عليه أمام من يجلس في الأعلى.
وصلنا إلى باب خشبي اكبر واثقل من غيره، عليه لوحة صغيرة:
D. Albrecht – CEO
لم أطرق الباب، فهي فتحته مباشرة، وأشارت لي بالدخول.
دخلت.
المكتب أكبر من اللازم كما هو متوقع، نوافذ واسعة تكشف المدينة، كما لو أن المدير بحاجة دائمة لرؤية كل شيء من فوق.
وفي منتصف المشهد، يقف رجل طويل في الأربعين من عمره، شعره رمادي بخصل سوداء عنيدة لم تُهزم بعد، عيناه سريعتا الملاحظة، فيهما فضول لا يُحسن إخفاءه.
ابتسم حين رآني، تلك الابتسامة التي قد تعبر عن أي شيء إلا السعادة.
_ أهلاً... أنتِ الموظفة الجديدة، أليس كذلك؟
قالها بنبرة عفوية، ثم جلس دون أن ينتظرني أن أبادر بالجلوس.
جلست قبالته، دون ابتسامة ودون ردّ فوري. انتظرت أن يُكمل.
فعل.
_ نعم، هو كذلك.
اسمك... نارمين؟
اسم غير مألوف أبداً.
هل هو اسمك الحقيقي؟ أم مجرد لقب غريب اخترته لنفسك؟
ضحك قليلاً بنبرة من يختبر، لا من يسخر.
نظرت إليه بثبات.
"اسمي الحقيقي. لا أرى جدوى في اختيار أسماء، ولا في الهروب منها."
أومأ، وكأنه يُعجب بجواب لا يعرف كيف يُصنّفه.
"غريب. يشبهك قليلاً."
توقف، ثم أضاف: "فيه شيء جامد... لكن غامض."
ابتسمت هذه المرة، ليس مجاملة، بل كمن يرى أحدهم يحاول فتح صندوق مغلق بلا مفتاح.
"ليس بالضرورة أن تُشبه الأسماء أصحابها. أحيانًا تشبه أفكار الناس عنها فقط."
رفع حاجبه الأيمن، بإيقاع محسوب، شخص يُحب التحكم بانفعالات وجهه. رجل تدريب.
"فلسفية." قالها، ثم نظر إلى شاشة صغيرة بجانبه، كمن يريد قطع اللحظة قبل أن تفلت منه.
"أحب أن أتعرف على الموظفين الجدد شخصيًا. أؤمن بأن الناس ليست أرقامًا، حتى لو اعتقد النظام غير ذلك."
"والنظام لا يخطئ غالبًا."
أجبت.
ضحك، هذه المرة بصوت أوضح.
"أعجبني ذلك، هل أنت من النوع الذي يحب التحدّي؟"
"لست من النوع الذي يحب شيئًا كثيرًا. ولا أرى أن التحدي دائمًا يستحق الجهد."
أخذ نفسًا، اتكأ للخلف.
_" واضح أنك لا تنجرفين بسهولة."
_ أليس الانجراف بداية للغرق؟
صمت لأول مرة، بدا وكأنه يبحث عن زاوية جديدة للهجوم.
"حسنًا يا نارمين، أظن أن لدينا بداية مثيرة للاهتمام. آمل فقط ألا تكون مثيرة أكثر من اللازم."
أومأت.
"الإثارة في رأيي سوء توزيع إنتباه."
ضحك مجددًا، ثم نهض من كرسيه ومد يده.
صافحته.
"مرحبًا بك في شركتنا، نارمين."
قالها بنبرة نهائية، كما لو أنه أغلق ملفًا لا يريد التمادي فيه أكثر.
خرجت من المكتب دون أن ألتفت. لم أكن متوترة، ولم أكن مرتاحة.
كنت فقط... موجودة.
وفي هذا الوجود ما يكفي من المعنى بالنسبة لي.
.................................................................. ..... ....
عدتُ إلى مكتبي بنفس الخطوات، لكن الشعور كان مختلفًا بدرجة طفيفة. لم تكن هناك رغبة في التفسير، فقط ملاحظة سريعة: اللقاءات لا تغيّر شيئًا، لكنها تترك أثرًا كما تترك السفن أثرها في الماء.
جلست، والحاسوب ما زال مفتوحًا على شاشة تسجيل الدخول، كما تركته. وضعت يدي على الفأرة، وقبل أن أغرق في التفكير، سمعت صوتًا خفيفًا وسريعًا قادمًا من خلفي، ثم ظهر وجه جديد على المشهد.
"أوه، أنتِ هي نارمين؟"
صوتها يحمل فرحًا متحمسًا بلا سبب، لكنه لم يكن مصطنعًا، كأنها خرجت تواً من مشهد صباحي ملون لا علاقة له بهذا المكتب الرمادي.
رفعتُ نظري ببطء.
شابة شقراء في العشرينات، شعرها مربوط بشكل عبثي، وعيناها واسعتان فيهما شيء طفولي لا يخجل من النظر مباشرة. بيدها مجموعة من الملفات، وبجانبها كوب قهوة مرسوم عليه قطة مبتسمة.
تقدمت دون أن تُدعى، وضعت الملفات على طرف المكتب، ثم جلست على الطاولة المقابلة، كما لو أنها فعلت هذا مرارًا.
"أنا متيلدا، وهذه ملفاتك الخاصة ببداية العمل. أعلم أن اليوم الأول يكون مربكًا، لكن لا تقلقي، سيمر."
لم أعلق. كانت تحركاتها مفرطة العفوية، لكنها لم تكن سخيفة. كأنها تؤمن بأن من حقها أن تكون موجودة في المساحة الخاصة بأي شخص، دون أن تطلب إذنًا.
تأملتني لبرهة، ثم قالت وهي تشير إلي بإصبعها، نبرة صوتها لا تزال مرحة، لكنها صادقة:
"اسمك... نارمين. يبدو ناعمًا جدًا، لكن نظراتك لا تشبهه إطلاقًا."
رفعتُ بصري نحوها ببطء. لا استغراب ولا انزعاج.
– مديرك لا يقول نفس الشيء.
أمالت رأسها، ثم ضحكت ضحكة قصيرة خفيفة، كأنها أرادت تليين الجملة.
"غريب. وما الذي يقوله مديري؟"
"المدير قال إنه يشبهني... جامد، غامض ربما ."
رفعت حاجبيها بانفعال بسيط، ثم أزاحت خصلة من شعرها إلى الخلف.
"لا أوافقه. أنا أرى فيه شيئًا آخر. الاسم يبدو كما لو أنه قادم من رواية خيالية. ليس الاسم الحزين، بل الذي يحمل بدايات لا نعرف نهاياتها بعد."
توقفت، ثم أضافت وهي تمرر يدها على الملفات كما لو كانت تحاورها:
"أظن أن السبب هو أنكِ لا تتكلمين كثيرًا. هذا يمنحكِ طابعًا ساكنًا. لكنني أعتقد أن السكون أحيانًا مجرد غطاء لما يتحرك باستمرار في الداخل."
تأملتُها. كلماتها لم تكن ساذجة. كانت عفويتها تخدع لكنها تخفي حسًّا مراقبًا حادًا.
"أنتِ تلاحظين أكثر مما يظهر عليكِ."
قلت بهدوء.
ابتسمت.
"وأنتِ... لا تلاحظين فقط، بل تحللين. هناك فرق."
وأشارت إلى رأسي بخفة، كأنها تضع إشارة على فكرة كانت تمر بها.
لم أضحك، لكنني شعرت بانقباض طفيف في وجهي شبيه بشيء يشبه الراحة، لكنه لا يريد أن يُسمى.
قلبت بعض الملفات، قرأت بعض العناوين، ثم توقفت فجأة.
"بالمناسبة... هل تشربين القهوة؟"
"سوداء من دون سكر."
قلت ذلك بلا تفكير، كمن يكرر حقيقة محفوظة.
نهضت وهي ترفع كوبها أمامي كراية صغيرة.
"أنا أيضًا. لكنّي أحبها مع الحليب... الحياة مُرّة بما يكفي."
ثم مضت في الممر، بنفس الخطى السريعة التي جاءت بها.
نظرت إلى الكوب الذي تركته على مكتبي. لا يزال دافئًا. ملفاتي كذلك.
شخصيتها بقيت لحظة في المكان بعد مغادرتها، كما تبقى رائحة خفيفة لا تُزعج، لكنها تحفر نفسها في الهواء.
ربما لن يتغير شيء، وربما كل شيء بدأ يتغير دون أن ألاحظ.
................................................................. ..... .... ..
لا تنسوا تقيم الفصول في التعليقات ، قراءة ممتعة
Comments