## حطام ##
هل يمكن لفكرة أن تقتل شخصًا؟
أم أنه قد يموت تحت تعذيب صدى تكرارها؟
حسنًا، أنا كاتب الرواية. لا أحب المقدمات أو تقديم أي معلومات عني، وهذا لن يهمك بأي حال.
فقط أردت أن أقول إن ما ستقرأه ليس لي، لأنني لست كأي كاتب يروي روايته بنفسه وهو يخطها على الورق.
أنا لن أروي الحطام، تفكيري سيتكفل بذلك.
لا بأس إن ظننتني أهذي، ولكني شخص يفصل تفكيره عن ذاته، يمنحه كيانًا مستقلاً، يمنحه رؤية خاصة ومبادئ قد تخالف حتى ما يريده.
وهذا ما جعلني في صراع دائم مع عقلي.
ربما لن تصدق هذا، وأنا أيضًا كذلك.
سيصعب عليك فهم الامر إلا إن كنت مثلي،
شخص قدّس أفكاره حتى نسي أنها مجرد أفكار،
وأصبح يترجاها أن تتوقف عن ثقب رأسه.
إنه جنون .......أنا أنقاد إلى الجنون.
** البداية **
أمريكا، ٢٧ مايو
هذه الطريق طويلة، طويلة جدًا... وخالية حد التلاشي.أمسك بالمقود وكأنني أتشبث بشيء لا يُرى.
أديره بهدوء، فيما تتبع عيوني ذلك الخط الأبيض المتقطع كأنه نبض قلبي، بطيء، رتيب، يزحف على الإسفلت الجاف.
أقود منذ زمن لا أعرف كيف مضى،الوقت هنا لا يُقاس بالساعات، بل بالخواء.
لم تلمح عيناي سيارة واحدة، فقط صوت المحرك المنخفض يرافقني، وصدى أفكاري الثقيلة.
فتحت النافذة رغم أشعة الشمس التي غمرتني بسطوتها، كنت أرغب في تنفس شيء ما غير الصمت ..
نسمة تحمل شيئًا من الحياة مثلا ، تذكرني بأني ما زلت هنا ، وتكون اكثر صدقًا مما وجدته في السهرات الباذخة او في ضجيج المهرجانات، خلف ستائر المسرحيات اللامعة، أو حتى في تلك الرحلات التي بدت كأنها مصممة لتخدير الحواس.
ربما كل تلك الأماكن لم ترق لي ... لانها كانت ممتلئة بالناس... بالوجوه، بالابتسامات المتصنعة.
وبينما كنت أبحث عن نفسي
أضيع بينهم.
لا أُمقِت أحدًا، ولا أمانع وجود الجميع، ولكن أحبذ الهروب من ذلك الصخب الذي يلقبونه بالحياة،
أحبذ ذاك الهامش الهادئ من العالم، حيث تشعر بالوجود كما يجب أن يشعر به.
لن أبيت الليلة في منزل عمي، ولن أعود إليه مجددًا.
أنا في طريقي لمنزلي الجديد... أو ربما القديم.
منزل بسيط، لا يوجد فيه ما يبهر، لكنه يشبهني، يعاكس تمامًا ذلك القصر الفاخر الذي عشت فيه.
ذلك البناء الصلد المترامي ، لا يرحب بك بل يستعرض نفسه عليك ، أثاثه من أغلى الطرازات، لكنه لا يحمل ذاكرة
كنت أعيش فيه محاطة بأعداد لا تحصى من الخدم والحشم والحراس...
أشخاص يعبرون أيامي بصمت، لا أعرف أسماءهم، ولا أحفظ ملامحهم، رغم أنهم كانوا وجهي اليومي طيلة ثمانية عشر عامًا.
ربما لأنني لم أكن يومًا معهم، بل بينهم لا أكثر.
ثم هناك عمي... شخص يحمل اسمه صفة القرابة، لكن لا شيء في حضوره يشبه العائلة.
لا أراه إلا مرات قليلة في السنة، تعد على الأصابع، لا يتكلم كثيرًا، ورغم هذا لا يزال من المريح عدم سماع صوته الذي لا يكتسى سوى بالاوامر الباردة او الصراخ العالي
لا أتذكر أنني أمضيت وقتًا معه في مكان غير قاعات التدريب، حيث تُصهر إرادتي على نار الصرامة، أو في عيادات الأطباء، لا أعرف حتى لماذا كنت أزورها.
لم يكن يشرح شيئًا، كان يكتفي بأن يأخذني، ويقف وراء الزجاج يراقبني، وأنا كعينة يُفحص تفاعلها تحت مجهر حديث.
وحدي الآن على هذا الطريق، وحيدة.
لا أدري إن كنت هاربة أم عائدة، لكن ما أعلمه جيدًا، هو أن هذه العزلة رغم قسوتها، أرحم من وجود لا أشعر فيه بشيء.
وها أنا أخيرًا في هذا الحي، شوارع هادئة، تتخللها إضاءة خافتة كمن تخجل بالبوح بوجودها.
محلات صغيرة ببساطة، يدخلها عدد قليل من الناس، يعرفونها أكثر مما يعرفون أنفسهم.
ممرات ضيقة، لم أر مثلها من قبل إلا في بعض الأفلام القليلة التي شاهدتها، تشبه تلك التي تتحدث عن حيوات منسية.
بيوت عادية، لا تشبه ناطحات السحاب، غير متراصة أو متلاصقة، ولكنها متقاربة بشكل جميل، تفصل بينها فراغات ولو بمسافات قصيرة، ورغم ذلك تبدو شبيهة ببيت واحد، تعددت أبوابه.
وفي المنتصف... منزلي.
هل يعقل أنني سأعيش هنا؟
من الأقدار ما قد يفاجئك حقًا.
ركنت سيارتي بحذر، خشيت أن يصدر عنها صوت يلفت انتباه الجيران ، نزلت منها كشخص يجرب الوقوف لأول مرة
القيت نظرة متفحصة لجدران المنزل الخارجية...
جعلها الزمن سجناً متذمراً، وغطاها بالأغصان الذابلة وشبك العنكبوت.
تنهدت تنهيدة ثقيلة، أفرغ فيها فائض تعبي وإنهاكي، واستدرت نحو باب السيارة الخلفي،
مددت يدي لمقبضه وفتحته ، فإذ برأسها يسقط برفق على ذراعي...
إنها أمي.
تأملت ملامحها البريئة للحظات دون قصد .....عجبًا للزمان!
لعب بحياتي كمن يلعب بخيوط الدمى، فغدت أخرى لا أعرفها، ولم يقدر على المساس بهاته الملامح.
همست بهدوء، أحاول إيقاظها:
"أمي... هيا، لقد وصلنا."
أفاقت فزعة رغم صوتي الخافت، رمقتني بنظرة تعجب، ثم قالت بدهشة:
"وصلنا؟ حقًا؟ لم أشعر بمرور الوقت مطلقًا."
"هكذا إذن؟ ربما لأنك قضيتِه نائمة... هيا انزلي، علينا دخول المنزل."
تركتُها في السيارة. نزلت على مهلها، تجمع أفكارها وتتأمل تفاصيل الحي، بينما سرتُ أنا بخطى بطيئة نحو باب المنزل، أعبر حديقة صفراء العشب، يسكنها الصمت، كأنما فقدت حياتها منذ أزل بعيد.
وقفتُ أمام الباب، وحظيت بشرف أن أكون أول من يفك قفلًا سئم انتظار الزائرين.
دفعته ببطء محاولة فتحه، لأرى تجسيدًا للفوضى في أبهى صورها: عشرات القطع من الخردة، غبار كثيف كاد يحجب بصري، وهواء خانق لم تُفتح له نافذة منذ سنوات.
لم أشأ أن أمنح كسلي فرصة، وهممت بالتنظيف، غائصة بين الركام.
المكان أشبه برسالة كتبها الغياب وغادر بعد دخولي. لم أجد في الغبار ما يزعجني من قبل؛ فهو لا يقترب أكثر مما ينبغي، وأنا لا أطرده. لكنه الآن شاهد على حياة مرّت بهذا المكان.
صحيح أنها اختفت، لكن أثرها لا يزال عالقًا في الزوايا...
دليلٌ قاسٍ على الماضي، وأنا لا أريد الرجوع إليه، حتى لو لم يكن يخصني.
لذا مددتُ يدي بقطعة قماش أزيله بسرعة، وكأني أزيله من ذاكرتي، لا من الجدران.
كان صوت أمي يتردد من الغرفة المجاورة، يحمل ذلك القلق الأمومي الذي لا يهدأ، ثم اختفى لبرهة قبل أن يعود ناعمًا من خلفي:
_ نارمين... دعي عنك هذا التعب، لم لا نؤجل التنظيف للغد؟
أجبتُ دون أن ألتفت:
_ لا، لا داعي لذلك، أمي. هذا لا يحتمل التأجيل، لن نقضي أول ليلة هنا نتنفس الغبار. يمكنكِ الجلوس، لا تقلقي، سأتولى الأمر.
نظرت إليّ بعينين امتزج فيهما الحنان بالحيرة، وقالت:
_ نارمين... هل يريحك هذا حقًا؟
لا أحب الأسئلة التي لا أملك لها إجابات واضحة، لأنها لا تموت، بل تظل عالقة في رأسي تأبى أن تُنسى.
أسئلة تكشف ما أحاول إخفاءه، حتى عن نفسي.
لكنها أمي، ولا بأس بإجابة ناقصة كتوقّعاتي، أو مشوشة كتفكيري، واثقة بأنها ستفهمها.
_ لا أدري، أمي... لا أدري. أنا فقط أحاول العيش بهدوء، حياة عادية جدًا... معكِ، وهذا لن يحدث في منزل عمي أبدًا.
ما عشته في ذلك المكان لم يكن مثيرًا، بل مملًا أحيانًا... لكنه لم يكن سهلًا أيضًا.
وأنا... سئمت كل هذا.
اقتربت مني، وضعت كفها على رأسي وربّتت عليه كما كانت تفعل في صغري، ثم ابتسمت وقالت بصوت يعزف طمأنينة عذبة:
_ لا تقلقي... كل شيء سيكون على ما يرام. أنا أثق بكِ، صغيرتي.
رغم أني لا أتفق مع عقلية عمي، وأختلف مع كثير من طباعه، إلا أني أشبهه أحيانًا، في برودي مثلًا.
أخذت منه ما يكفيني لأبني حولي حصنًا لا يخترقه التأثّر.
لكن ليس معها... معها ألين، كطفلة صغيرة أمام حضنها، ولا أكره هذا أبدًا.
في الواقع، لا أستطيع التخلي عنه.
بادلتها ابتسامتها الجميلة، وواصلنا ما بدأناه سويًا.
أخيرًا... انتهى اليوم.
أطفأتُ آخر مصابيح المنزل، أغلقت نوافذه وأبوابه، عزلت كل ما بداخله عن العالم الخارجي
شعور مريح في فكرة أن أكون آخر من يغلق المشهد، كأنني أختتم عرضًا تعب في تقديمه الجميع.
الغرف نظيفة الآن، أو هكذا يبدو... على الأقل لا أثر فيها لغيري.
استسلمت أمي للنوم قبلي، منذ أكثر من ثلاث ساعات.
صعدتُ الدرج أُقاوم تثاقل خطواتي، وثقل تفكيري.
اللعنة، غدًا أول يوم عمل.
لا طاقة لي حتى لبدئه... لكنه سيبدأ بأي حال.
وصلتُ غرفتي أخيرًا. لا إضاءة، لا صوت فيها سوى صوت حركتي وأنفاسي.
جوّ مثالي.
أفلتُّ شعري أخيرًا، أحرّره من قيدٍ طال.
جلست على طرف السرير... أفكّر في اللاشيء.
رغم أن كل شيء يُلحّ عليّ... لكن عقلي لا يطاوعني.
الأمر أنني اعتدتُ على هذا، لذا من الصعب ألا أغرق في أفكاري.
لكنني منهكة إلى حدٍّ جعلها تفرّ مني.
لا بأس.
هذا يكفي لليوم.
استلقيت، أنظر إلى السقف.
لا أشعر بشيء واضح، وهذا جيد.
أنا متعبة... جدًا.
لكن، حتى أشدّ لحظات التعب لا تغلب أرقًا ثقيلًا يأبى أن يرحمني.
حسنًا... يبدو أنني سأقضي الليلة أُصارع الصمت،
على أمل أن تُهزمني الدقائق.
................................................................... ..... .... ...
كالعادة... قبل المنبّه.
لا أدري لماذا ضبطته لإيقاظي إن كنتُ لن أنام أصلًا.
النوم في الأماكن الجديدة يشبه الحديث مع الغرباء: جاف، سطحي، غير مريح... يحمل قلقًا خفيًا مجهول السبب، قلق بسيط لكنه مزعج.
تحرّكت في السرير قليلًا، لعلّي أُقنع نفسي أني نمتُ ولو لوهلة .
لا أذكر حتى متى أغمضت عيني، أو إن كنت فعلت أساسا.
الليلة مرّت كما تمرّ الصور في معرض لا يهمك مضمونه: تشاهد لأنك موجود، لا لأنك تريد.
جلست. كل حركاتي بدت خالية من التلقائية ، كما لو أنني أجرّب جسدي لا أستخدمه.
و هذه الغرفة المألوفة بطريقة مصطنعة، كأن أحدهم حاول أن يصنع مكانًا مريحًا... فخرج بشيء يشبه نسخة مشوّهة من الأمان.
الأثاث ثابت، الألوان هادئة، لكن خلف هذا كله شعور خفي يُذكّرك أنك "في مكان جديد"،
وأن الجديد ليس دائمًا وعدًا، بل أحيانًا تهديدٌ صامت.
وجهي في المرآة لا يبدو متعبًا، لكنه لا يبدو حيًا أيضًا.
لا أبحث عن ملامحي، بل عن دليل على أنني ما زلت "أنا"... رغم أن مفهوم ال " انا " بحدّ ذاته مفهوم متقلب لا أستطيع الإمساك به حتى في أكثر لحظاتي وعيًا.
الماء البارد لا يوقظني، فقط يذكّرني أنني لم أنم.
الساعة تشير إلى الخامسة وخمس وأربعين.
المرة السابعة التي أحدق فيها بعقاربها منذ ما ظننته بداية الصباح.
ربما هذا لان البشر لا يراقبون الزمن... بل يراقبون أنفسهم فيه، جميعنا نبحث عن إشارات أننا نتحرك، حتى لو إلى مكان لا نريده.
فتحت خزانة الملابس، لأخرج ما تم اختياره مسبقا .
كنت قد جهزت زيا رسميا مكويا بعناية، زي لا يلفت النظر، ولا يترك مجالًا للحكم.
حسنا ، على الاقل فعلت ما يكفي لأركب "جسدًا جاهزًا للعرض".
الساعة تجاوزت السادسة.
أعددت القهوة ، ليس لاني جائعة ، بل لانه المعتاد ، سكبتها في كوب لا يبدو ممتنًا، وجلست قرب النافذة.
أراقب بخارها يتلاشى، وهذا الشارع الفارغ إلا من رجل يخرج كيس قمامة، وامرأة تحمل طفلًا نائمًا على كتفها.
لا أحد يتحرك بناء على ما يرغب به ... الجميع يكرّر ما اعتاد عليه يوميًا بتفان يشبه الطاعة ....لا ارادة فيه
الجو خارج المنزل هادئ، مشرق كجو البدايات الموفقة
لكنه جو فقط.
ركبت سيارتي التي بدت وكأنها كانت تنتظرني طوال الليل.
أدرتُ محركها... وانطلقت.
.........
....رأيكم يهمني لذا لا تنسوا تقيم الفصول في التعليقات ، قراءة ممتعة
وصلت إلى مبنى الشركة قبل الموعد بعشرين دقيقة.
شركة برمجة العاب ...لا علاقة لمبناها بالمرح
كان زجاجيًّا، مرتفعًا بلا غرور، مصقولًا كما يجب، لا يُعبّر عن شيء
كان كواجهة ذهنية لشيء بلا جوهر... كغلاف لرغبة قديمة بالانتماء.
دخلت.
الباب الزجاجي انفتح تلقائيًّا، كما لو أنه يعرفني.
الغريب أنني لم أشعر بالترحيب، ولا بالرفض.
شعرت فقط أنني عبرت إلى مساحة أخرى متقنة، هادئة، تخلو من أي ضجيج سوى ما تسمح به السياسة الداخلية.
الاستقبال أمامي: امرأة ببشرة خالية من التعبير.
ألقيت عليها نظرة سريعة لا شبهة فيها، أردت فقط أن أتأكد أنها من نوع البشر الذي يُدرّب على قول "أهلًا بك في أول يوم عمل".
قالتها فعلًا، بصوت منخفض يشبه قراءة بند في عقد لا أحد يهتم له.
أعطتني بطاقة مؤقتة، وابتسامة مؤقتة، ثم طلبت مني التوجه إلى الطابق السادس.
صعدت بالمصعد.
كنت وحدي، وهذه ميزة لم أطلبها، لكنها بدت ضرورية في تلك اللحظة.
المصاعد تشبه القبور الرأسية: صامتة، مغلقة، تُنقلك من مستوى إلى آخر دون أن تسألك إن كنت مستعدًّا.
تأملت انعكاسي في جدران المصعد اللامعة.
لم أرَ نفسي، بل خيالًا لشخص يرتدي الزي الصحيح، ويقف بشكل مناسب، لكنه لا يعرف إن كان صاعدًا فعلًا، أم عالقًا في صندوق معدني لا نهاية له.
"الطابق السادس."
قالها الصوت الآلي بلا روح.
خرجت.
الرواق طويل، الإضاءة بيضاء باردة، لا تمنحك دفئًا ولا تسمح بالخطأ.
الأرضية صلبة، والجدران عليها لوحات ملوّنة بلا فكرة واضحة، من رسمها قرّر أن الجمال مطلوب، لكنه لا يعرف كيف يصنعه.
مشيت بخطوات محسوبة، بعقل يراقب لا يشارك.
كل مكتب خلف زجاج، كل وجه خلف شاشة، كل شخص يكتب كأنه يكتب شيئًا مهمًّا.
ربما هم كذلك. أو ربما يتظاهرون بالجدية، كما أفعل أنا تمامًا.
دخلت إلى القسم المخصّص لي.
مساحة مكتبية من أربعة أمتار تقريبًا. مكتب، كرسي، شاشة.
بجانبي زميلة لم ترفع عينيها حين وصلت.
لم أستغرب، كثير من الناس يظنون أن البداية شيء داخلي لا يخص الآخرين.
وأنا لا أملك رغبة في كسر هذا التواطؤ.
جلست.
فتحت الحاسوب.
كتبت كلمة المرور التي أعطوني إياها.
بدأت... أو ما يُفترض أنه بداية.
لكن داخلي، لم يتحرك شيء.
ولا أعتقد أن هناك ما يجب أن يتحرك.
.............................................................. ...... ..... ....
لم تمضِ عشر دقائق حتى سمعت وقع كعب نسائي يتجه نحوي. خطوات متقنة، لا استعجال فيها، لكنها واضحة، لها وزن ونبرة.
توقفت عندي امرأة في الأربعين من عمرها، شعرها مرفوع بعناية، وملامحها مألوفة ، من ذلك النوع المألوف الذي لا يمكن تذكره لاحقًا.
نظرت إلي باحترافية، كما لو تعرف بالضبط ما الذي يفترض أن تقوله:
"الآنسة نارمين؟ المدير يرغب برؤيتك في مكتبه."
هززت رأسي بهدوء، وقفت دون أن أسأل "لماذا؟" الأسئلة الأولى عادة لا تؤدي إلى شيء.
رافقتها في الممر ذاته الذي عبرته قبل قليل . لكن الآن كانت خطواتي أبطأ قليلاً، ليس تردّدًا، بل توقفًا مؤقتًا بين ما أنا عليه، وما يُفترض أن أبدو عليه أمام من يجلس في الأعلى.
وصلنا إلى باب خشبي اكبر واثقل من غيره، عليه لوحة صغيرة:
D. Albrecht – CEO
لم أطرق الباب، فهي فتحته مباشرة، وأشارت لي بالدخول.
دخلت.
المكتب أكبر من اللازم كما هو متوقع، نوافذ واسعة تكشف المدينة، كما لو أن المدير بحاجة دائمة لرؤية كل شيء من فوق.
وفي منتصف المشهد، يقف رجل طويل في الأربعين من عمره، شعره رمادي بخصل سوداء عنيدة لم تُهزم بعد، عيناه سريعتا الملاحظة، فيهما فضول لا يُحسن إخفاءه.
ابتسم حين رآني، تلك الابتسامة التي قد تعبر عن أي شيء إلا السعادة.
_ أهلاً... أنتِ الموظفة الجديدة، أليس كذلك؟
قالها بنبرة عفوية، ثم جلس دون أن ينتظرني أن أبادر بالجلوس.
جلست قبالته، دون ابتسامة ودون ردّ فوري. انتظرت أن يُكمل.
فعل.
_ نعم، هو كذلك.
اسمك... نارمين؟
اسم غير مألوف أبداً.
هل هو اسمك الحقيقي؟ أم مجرد لقب غريب اخترته لنفسك؟
ضحك قليلاً بنبرة من يختبر، لا من يسخر.
نظرت إليه بثبات.
"اسمي الحقيقي. لا أرى جدوى في اختيار أسماء، ولا في الهروب منها."
أومأ، وكأنه يُعجب بجواب لا يعرف كيف يُصنّفه.
"غريب. يشبهك قليلاً."
توقف، ثم أضاف: "فيه شيء جامد... لكن غامض."
ابتسمت هذه المرة، ليس مجاملة، بل كمن يرى أحدهم يحاول فتح صندوق مغلق بلا مفتاح.
"ليس بالضرورة أن تُشبه الأسماء أصحابها. أحيانًا تشبه أفكار الناس عنها فقط."
رفع حاجبه الأيمن، بإيقاع محسوب، شخص يُحب التحكم بانفعالات وجهه. رجل تدريب.
"فلسفية." قالها، ثم نظر إلى شاشة صغيرة بجانبه، كمن يريد قطع اللحظة قبل أن تفلت منه.
"أحب أن أتعرف على الموظفين الجدد شخصيًا. أؤمن بأن الناس ليست أرقامًا، حتى لو اعتقد النظام غير ذلك."
"والنظام لا يخطئ غالبًا."
أجبت.
ضحك، هذه المرة بصوت أوضح.
"أعجبني ذلك، هل أنت من النوع الذي يحب التحدّي؟"
"لست من النوع الذي يحب شيئًا كثيرًا. ولا أرى أن التحدي دائمًا يستحق الجهد."
أخذ نفسًا، اتكأ للخلف.
_" واضح أنك لا تنجرفين بسهولة."
_ أليس الانجراف بداية للغرق؟
صمت لأول مرة، بدا وكأنه يبحث عن زاوية جديدة للهجوم.
"حسنًا يا نارمين، أظن أن لدينا بداية مثيرة للاهتمام. آمل فقط ألا تكون مثيرة أكثر من اللازم."
أومأت.
"الإثارة في رأيي سوء توزيع إنتباه."
ضحك مجددًا، ثم نهض من كرسيه ومد يده.
صافحته.
"مرحبًا بك في شركتنا، نارمين."
قالها بنبرة نهائية، كما لو أنه أغلق ملفًا لا يريد التمادي فيه أكثر.
خرجت من المكتب دون أن ألتفت. لم أكن متوترة، ولم أكن مرتاحة.
كنت فقط... موجودة.
وفي هذا الوجود ما يكفي من المعنى بالنسبة لي.
.................................................................. ..... ....
عدتُ إلى مكتبي بنفس الخطوات، لكن الشعور كان مختلفًا بدرجة طفيفة. لم تكن هناك رغبة في التفسير، فقط ملاحظة سريعة: اللقاءات لا تغيّر شيئًا، لكنها تترك أثرًا كما تترك السفن أثرها في الماء.
جلست، والحاسوب ما زال مفتوحًا على شاشة تسجيل الدخول، كما تركته. وضعت يدي على الفأرة، وقبل أن أغرق في التفكير، سمعت صوتًا خفيفًا وسريعًا قادمًا من خلفي، ثم ظهر وجه جديد على المشهد.
"أوه، أنتِ هي نارمين؟"
صوتها يحمل فرحًا متحمسًا بلا سبب، لكنه لم يكن مصطنعًا، كأنها خرجت تواً من مشهد صباحي ملون لا علاقة له بهذا المكتب الرمادي.
رفعتُ نظري ببطء.
شابة شقراء في العشرينات، شعرها مربوط بشكل عبثي، وعيناها واسعتان فيهما شيء طفولي لا يخجل من النظر مباشرة. بيدها مجموعة من الملفات، وبجانبها كوب قهوة مرسوم عليه قطة مبتسمة.
تقدمت دون أن تُدعى، وضعت الملفات على طرف المكتب، ثم جلست على الطاولة المقابلة، كما لو أنها فعلت هذا مرارًا.
"أنا متيلدا، وهذه ملفاتك الخاصة ببداية العمل. أعلم أن اليوم الأول يكون مربكًا، لكن لا تقلقي، سيمر."
لم أعلق. كانت تحركاتها مفرطة العفوية، لكنها لم تكن سخيفة. كأنها تؤمن بأن من حقها أن تكون موجودة في المساحة الخاصة بأي شخص، دون أن تطلب إذنًا.
تأملتني لبرهة، ثم قالت وهي تشير إلي بإصبعها، نبرة صوتها لا تزال مرحة، لكنها صادقة:
"اسمك... نارمين. يبدو ناعمًا جدًا، لكن نظراتك لا تشبهه إطلاقًا."
رفعتُ بصري نحوها ببطء. لا استغراب ولا انزعاج.
– مديرك لا يقول نفس الشيء.
أمالت رأسها، ثم ضحكت ضحكة قصيرة خفيفة، كأنها أرادت تليين الجملة.
"غريب. وما الذي يقوله مديري؟"
"المدير قال إنه يشبهني... جامد، غامض ربما ."
رفعت حاجبيها بانفعال بسيط، ثم أزاحت خصلة من شعرها إلى الخلف.
"لا أوافقه. أنا أرى فيه شيئًا آخر. الاسم يبدو كما لو أنه قادم من رواية خيالية. ليس الاسم الحزين، بل الذي يحمل بدايات لا نعرف نهاياتها بعد."
توقفت، ثم أضافت وهي تمرر يدها على الملفات كما لو كانت تحاورها:
"أظن أن السبب هو أنكِ لا تتكلمين كثيرًا. هذا يمنحكِ طابعًا ساكنًا. لكنني أعتقد أن السكون أحيانًا مجرد غطاء لما يتحرك باستمرار في الداخل."
تأملتُها. كلماتها لم تكن ساذجة. كانت عفويتها تخدع لكنها تخفي حسًّا مراقبًا حادًا.
"أنتِ تلاحظين أكثر مما يظهر عليكِ."
قلت بهدوء.
ابتسمت.
"وأنتِ... لا تلاحظين فقط، بل تحللين. هناك فرق."
وأشارت إلى رأسي بخفة، كأنها تضع إشارة على فكرة كانت تمر بها.
لم أضحك، لكنني شعرت بانقباض طفيف في وجهي شبيه بشيء يشبه الراحة، لكنه لا يريد أن يُسمى.
قلبت بعض الملفات، قرأت بعض العناوين، ثم توقفت فجأة.
"بالمناسبة... هل تشربين القهوة؟"
"سوداء من دون سكر."
قلت ذلك بلا تفكير، كمن يكرر حقيقة محفوظة.
نهضت وهي ترفع كوبها أمامي كراية صغيرة.
"أنا أيضًا. لكنّي أحبها مع الحليب... الحياة مُرّة بما يكفي."
ثم مضت في الممر، بنفس الخطى السريعة التي جاءت بها.
نظرت إلى الكوب الذي تركته على مكتبي. لا يزال دافئًا. ملفاتي كذلك.
شخصيتها بقيت لحظة في المكان بعد مغادرتها، كما تبقى رائحة خفيفة لا تُزعج، لكنها تحفر نفسها في الهواء.
ربما لن يتغير شيء، وربما كل شيء بدأ يتغير دون أن ألاحظ.
................................................................. ..... .... ..
لا تنسوا تقيم الفصول في التعليقات ، قراءة ممتعة
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon