مضت أيام العمل الأولى كأنها سُحب منخفضة، تلامس الأرض دون أن تُمطر.
لم يحدث ما يمكن وصفه بالحيوي، لكنني بدأت ألاحظ الأنماط. الزوايا التي لا يتوقف عندها أحد، الأبواب التي تُغلق ببطء، الأحاديث المبتورة التي تخفت عندما أمر، حتى جدول الاجتماعات بدا مصمّمًا على نظام لا يناقض نفسه أبدًا، لكنه لا يبوح بكل شيء.
كنت أقضي الساعات التي تسبق الغروب في مراجعة البنية البرمجية لنظام الأرشفة الداخلي. لم يطلب مني أحد أن أفعل ذلك، لكن ثمة شيء في الخوادم الموحدة، الملفوظة من ذاكرة الشركة، بدا وكأنه يُخفي أكثر مما يُخزّن. ربما كان الفضول، وربما الدقة — كان الشك الذي لا يغادرني حين أجد ترتيبًا بالغ النظافة.
ثم كانت هناك متيلدا ..... ظلت كما هي: دافئة، مباشرة، تميل إلى الثرثرة العابرة.
بيننا علاقة هادئة ببساطة. غير أنني بدأت ألاحظ شيئًا لم أره فيها في البداية؛
هي ليست من النوع الساذج كما تبدو.
كانت حذرة دون أن تُظهر ذلك، تختار كلماتها بعناية حين يتعلق الأمر بالشركة. تبتسم حين تُسأل، لكنها لا تجيب بشكل واضح.
أو أن هذه الملاحظات ناتجة عن كوني غير قادرة على التحدث مع شخص دون تحليل كل تفصيل في شخصيته.
هذا يساعد أحيانًا، لكنه يسبب فرطًا في التفكير. بأي حال، لا معنى لكل هذا بلا دليل.
حتى أتى يوم كشفه.
كان يومًا رماديًا بلا مبرر. لا غيوم، لا أمطار، فقط ضوء باهت لا يليق بساعة الظهيرة.
الشاشة أمامي كانت تطرف كما لو كانت تتنفس. فتحت ملفًا كان يجب أن يكون عاديًا... مشروع داخلي مؤرشف بعنوان لا يثير الشك:
mirrorcore_internal_notes_v0.6
داخل الملف، سطر غير منسق، كما لو أُدخل بالخطأ، أو كُتب بيد شخص لا يهتم بأن يُفهم:
// oooooo: DD+ :: f(۸)echo -> #
نظرت إليه لثانية. لم أستغرب، بل انزعجت. هذه ليست كتابة عبثية، بل تشفير. لا تكتب الرموز بهذا الترتيب إلا إن كنت تحاول أن تُخفي شيئًا في وضوح.
فتحت طرفية سوداء، أدخلت بضعة أسطر. شيئًا فشيئًا، ظهر النمط. كُتب كل شيء بلغة هجينة بين Bash وTypeScript، لكن المعنى لم يكن برمجيًا... بل معلوماتيًا. رسالة مخفية.
اسم صاحب التعديل:
TMathilda@proxy
ضغطت على سجل التعديلات. وجدت الملف أُدخل قبل 6 أيام.
في ذلك اليوم... يوم مرّت فيه متيلدا من أمام مكتبي خمس مرات بلا سبب واضح.
لا تعليق.
فتحت القناة الداخلية للمحادثات. كود وصولي يمنحني صلاحيات محدودة، لكنها كافية لو كنت تعرف كيف تُعيد توجيه الحزم داخليًا. فعلت. سحبت آخر عشرين محادثة غير مشفّرة. ثم ضغطت على مجلد كان من المفترض أن لا يظهر، لكنه فعل:
sandbox/temp_logs/mtl_case-zero
رسالة واحدة بداخله:
"وصلت، الملف لا يزال قيد التكرار. المستخدم السابق لم يُحذف بالكامل. الخوارزمية تتعلم أكثر مما يُقال لها."
ثم ظهرت فجأة:
"نارمين بدأت بملاحظة الشذوذ. سأتابع. نشتبه بتورط الإدارة العليا. التغطية يجب أن تستمر حتى التأكد."
ما هذا؟
ثلاث ثوانٍ صمت. قلبي لم يتسارع. لا يحدث ذلك لي.
عدت لملفي. جلست مستقيمة أكثر. أغلقت كل شيء، ببطء. ثم سحبت ملفًا قديمًا كنت أحتفظ به على وحدة تخزين خارجية:
game_patch_0416.alt
باس-٧ يُلفت:
sandbox/1✓ogs/mtl_case-zero
كانت حياتي السابقة.
لم أكن موظفة عادية. ولم أكن مبرمجة متوسطة كما أوهمتهم. كنت أكثر من ذلك بكثير.
و"متيلدا"... تلك الشابة الطفولية المرحة .
أول وهلة تراها فيها كفيلة بجعلك تجزم بسذاجتها الظاهرة في ثرثرتها التي لا تتوقف...
كانت محققة. وكانت تراقبني.
ابتسمت دون أن أشعر. الوضع بدأ يصبح مثيرًا للاهتمام.
لكن الأمر لم يكن شخصيًا بعد. ليس بعد.
..................................................................... ..... ..
في اليوم التالي، تصرفتُ كأن شيئًا لم يحدث.
فتحتُ حاسوبي، راجعتُ بعض الأكواد، أجبتُ على رسائل سطحية، وتحدثتُ مع متيلدا بضع كلمات عن آلة القهوة المعطّلة في الطابق الثالث.
لكنها كانت ترمقني بنظرة جانبية، كأنها تحاول تمييز شيء تاه فجأة من إحداثياته.
أنا أعرف هذا النوع من النظرات... نظرة شخص يشعر بأن شيئًا ما انكسر، لكنه لا يعرف بعد إن كان هو السبب... أم النتيجة.
أمضيتُ اليوم بأكمله دون أن ألمس شيئًا حساسًا.
لم أفتح ملفًا. لم أتتبع سجلًا.
لكنني كنتُ أفكر. كثيرًا.
—
انتظرت حتى خلت الممرات من الوجوه، عدتُ للمجلد:
sandbox/1 ✓ ogs/mtl_case-zero
كان فارغًا. لا ملف. لا سجل. ولا حتى لأي نشاط.
كأنه لم يكن هناك شيء.
توقعت هذا
من يكتب سطرًا مثل: "نشتبه بتورط الإدارة العليا"، يعرف جيدًا كيف يُخفي آثاره
في المساء ، عدت للمنزل قبل الغروب بقيل
الباب الأمامي كان مواربًا كما تركته. البيت هادئ... أكثر من اللازم.
وضعت حقيبتي على الطاولة الخشبية، خلعت معطفي، ومررت بأطراف أصابعي على حافة الصورة المعلقة في المدخل. صورة قديمة ... عندما كنت طفلة لا تعرف عن الحياة شيئا سوى انها مكان للعب
"تأخرتِ،"
قالت من المطبخ.
ابتسمتُ، دون أن ألتفت.
"ازدحام... أو ربما الوقت لا يسير كما يجب."
"كلام فلسفي، هذا يعني أنك جائعة."
ضحكت، "جوع وفلسفة؟
"إذًا حضّري العشاء بنفسك، وسأكون في الطابق العلوي أتأمل الغروب من الروايات."
ردّت بنبرة تمثّل الصرامة، لكني كنت أعرف جيدًا أن الطبق في الفرن جاهز منذ ساعة.
—
صعدتُ إلى غرفتي.
أغلقت الباب، وأسدلته بهدوء. لا أريد أن يسمعني شخص ما، حتى لو لم يكن هناك أحد.
رفعت اللوح الخشبي الصغير أسفل طاولة الكتب. الكيس الأسود ما زال في مكانه. أخرجته.
داخل الكيس، عدة أعرفها جيدًا: حاسوب صغير بتعديل خاص، قرص صلب مشفّر، وسماعات مراقبة ذات نطاق مزدوج.
كانت هذه بقايا الماضي ....حسنا مذا عساي ان افعل ان كان مصرا ؟
لكن الآن، دافعي للنبش ليس الحنين.
ربما هو الشك او الفضول. وربما... الإحساس بشيء أكبر يتحرك في الخفاء
نظام التشغيل لا يحمل اسماً. مجرد سطر أسود ينتظرني أن أبدأ.
كتبت أول أمر:
proxy.trace -name TMathilda
بدأ البحث.
مرت الدقائق ببطء. المعلومات تظهر بتسلسل متقطع:
تسجيل قديم لمشاركة في مؤتمر طبي، اسمها لم يكن ضمن الحضور الرسمي.
مقالة كتبتها في مجلة بحثية تحت اسم مستعار.
تصريح دخول لمرفق حكومي بتصنيف متوسط.
ثم فجأة، سجل غير مكتمل... تابع لوكالة لا تعلن عن نفسها.
معلومات مجزأة، مشفّرة، مخفية بطريقة لا يفهمها إلا من عاش في عالمها
هذا النوع من البيانات.....بيانات استخباراتية
هههه ، مذهل ! يبدو ان فضول تلك الطفلة لم يكن مجرد صفة عنيدة
محققة مُرسلة من شبكة الاستخبارات الخاصة، للتحقيق في قضايا معينة قديمة
قضايا ترتبط مباشرة بالشركة التي نعمل فيها ، عرفت منذ يومي الاول ان ذلك المكان مشبوه
حسنا ...يبدوا انها ليست عدوتي ، بغض النظر عن كونها راقبت تحركاتي لاسبوع ومثلت امامي مرارا دور طفلة ساذجة لكن ...
هي تبحث... وأنا أيضًا كذلك ، ربما لم اعد اهتم لكن هذا لا يزال جزءا مني
الفرق أنها تقود ملفًا رسميًا. وأنا مجرد ظل من ماضيها... ظل قد يكون مفيدًا.
—
أغلقت الحاسوب ببطء.
لم اكن خائفة ، ولا منزعجة ايضا
رغم ان مقر عملي اتضح انه مكان قذر
سأساعدها.
لا لأن هذا التحقيق يستحق.
بل انني ارفض تمثيل دور صنم جاهل .
ولانني لا اقبل العمل في القذارة ايضا
خرجتُ من الغرفة، وعدت إلى المطبخ.
" امي ، نسيتِ الملح!"
"لم أنسَ... لكنك تحتاجين لتتعلمي أن تضعيه بنفسك أحيانًا."
قالت وهي تملأ طبقي بابتسامة مشاكسة.
جلستُ أمامها، رفعت الملعقة، وتمتمت في سري:
"حسنًا، متيلدا... فلنبدأ اللعبة."
....................................................................... ... ..
لا تنسوا ابداء آرائكم في التعليقات ، قراءة ممتعة .
Comments