كان الليل قد أسدل ستائره على أرض "نيراث"، المدينة التي بُنيت على جراحها القديمة، تتنفس الغدر تحت جلدها، وتضحك للموت كلما مر من أمام بواباتها. لم يكن فيلوس يعلم أن خطواته تقوده إلى حضن العاصفة.
داخل الأزقة المتعرجة، حيث لا تسمع إلا أنين الرياح، كان جسده المنهك يجره ببطء، بينما ذكريات مجزرة قريته تحفر داخله كالمسامير. ملامحه صارت أكثر صلابة، لكن عينيه لا تزالان تسكنهما الطفولة المذبوحة.
توقف فجأة. كان هنالك شيء يراقبه. حركات خفية في العتمة، أنفاس متقطعة على الجدران.
"هل تظن أن المشي وحده كافٍ ليجعل منك رجلاً؟" قال صوت جهور خلفه.
استدار بسرعة، يده على مقبض سيفه الصغير، لكنه لم ير سوى ظل طويل لرجل مسن، عيناه تلمعان بالحكمة والاحتقار.
"من أنت؟" قال فيلوس.
"أنا الذي رأى الخراب قبل أن يولد، ودفن الأمل بيديه ثم ندم." أجابه الرجل.
اقترب منه ببطء، حتى باتت ملامحه أكثر وضوحاً. لحيته رمادية، وجبهته محفورة بندوب الزمن، وعباءته الطويلة ممزقة من أطرافها.
"اسمي زينارك. لا تبحث عن اسمي في الكتب، فالتاريخ لا يحب أمثالي."
نظر إليه فيلوس باستغراب، لكنه لم يتراجع. لقد تعلم خلال رحلته القصيرة أن من يبدو مجنوناً قد يكون عاقلاً أكثر ممن يتصدرون المجالس.
"لماذا تتبعني؟" سأله.
"لأنني رأيت في عينيك... نداء العدم."
صمت لحظة، ثم أضاف: "رأيت ذلك من قبل، في من ظنوا أن الانتقام سيشفي أرواحهم."
شد فيلوس قبضته وقال: "لن أفكر في شيء آخر، لا سلام ولا مغفرة. أنا لا أعيش... أنا فقط أؤجل موتي حتى أقتل من قتلهم."
ضحك زينارك ضحكة باردة، وقال: "إذن أنت تسير في طريقي. طريقي الذي قادني إلى أن أخسر كل شيء."
سكت، ثم التفت وقال: "تعال، إن أردت أن تتعلم كيف تُمسك الألم دون أن يحرقك."
---
قاده زينارك إلى منطقة خارج المدينة، حيث بقايا معبد قديم نُسي اسمه. جدرانه مغطاة بكتابات بلغة منسية، والظلام يزحف في زواياه كما يزحف الصدأ في القلب.
"هنا، ستتدرب. لا تتوقع مني أن أعلمك كيف تقتل فقط، بل كيف تموت دون أن تنهار."
ابتسم بسخرية، ثم ضرب الأرض بعصاه: "القوة الحقيقية ليست في من يرفع السيف، بل في من يعرف متى لا يرفعه."
بدأت الأيام تمر، وفي كل يوم يتعلم فيلوس دروساً لا تُحكى بالسيوف فقط، بل بالصمت، بالتأمل، وبالصراخ الداخلي الذي لا يسمعه أحد.
كان التدريب قاسياً. الجري تحت المطر، السقوط ثم الوقوف دون تذمر، وحمل الحجارة الثقيلة فوق الجبل. لكنه لم يكن تدريباً جسدياً فقط، بل نفسياً.
في إحدى الليالي، جلس زينارك أمامه قرب النار وسأله: "هل تؤمن أن العالم له معنى؟"
فأجابه فيلوس دون تردد: "لا. العالم نكتة سمجة، وقلبه فارغ."
ابتسم زينارك وقال: "هذا جيد. لأنك حين تعترف بعدم وجود المعنى، تبدأ بخلق معنى خاص بك."
رفع عينيه وأكمل: "لا تكن ضحية للعدم، كن خالقه."
كانت هذه الجملة كالسيف في صدر فيلوس. لقد بدأ يدرك أن طريق الانتقام ليس نهاية بل بداية لهوية جديدة.
---
بعد أسابيع، وفي إحدى مهام التدريب، طلب منه زينارك أن يتسلل إلى قصر أحد النبلاء في "نيراث"، للحصول على خريطة قديمة تشير إلى موقع "نواة العنقاء"، أحد مصادر القوى الأسطورية التي تناقلتها العائلات السبع.
ليلة التنفيذ، تسلل فيلوس كظلال الذئب. كان القصر محروساً بشدة، لكن تمريناته مع زينارك صقلت حواسه. تسلل عبر المجاري القديمة، ثم عبر السور الخلفي حيث الحراس أقل يقظة.
في غرفة الدراسة، وجد الخريطة ملفوفة ومغطاة بطبقة من الزجاج. لكنه لم يكن وحده.
"من أنت؟" قالت فتاة كانت تختبئ خلف الستارة، عيناها مثل عقيق أسود.
"أنا ظل يمشي على رماد." أجابها.
نظرت إليه في حذر، ثم قالت: "اسمي راينا. ابنة النبيل الذي تسرقه الآن."
تجمد للحظة، لكنها لم تصرخ. بل قالت بهدوء: "أعرف أن والدي ليس بريئاً. هذا القصر مبني على العظام. خذ ما أتيت لأجله... لكن لا تعد."
ثم أضافت بصوت مكسور: "ولا تجعل الغضب يقتلك، كما قتلني."
خرج فيلوس من القصر والخريطة في حزامه، لكن كلمات راينا ظلت ترافقه، تطرق على جدران قلبه المغلق.
---
حين عاد إلى زينارك، جلس أمامه وهو يتنفس ببطء. قال له العجوز: "وجدت الخريطة؟"
هز رأسه، ثم سأل: "هل كان لديك ابنة؟"
سكت زينارك طويلاً، ثم قال: "كان لديّ قلب. وقد ماتت معه."
ثم قام وأخرج من تحت رداءه تمثالاً صغيراً لطفلة، ممسوح الملامح.
"لن أخبرك بالقصة الآن. لكن تذكّر: خلف كل معلم حكيم، قصة من نار."
---
بدأت رحلته نحو القوة تأخذ منحنى مختلفاً. لم يعد فقط يسعى للانتقام، بل بدأ يرى نفسه أداة لصياغة عالم مختلف، عالم لا تموت فيه القرى بلا سبب، ولا تُخطف الطفولة في ليلة واحدة.
لكن الظلال لا تُهزم بسهولة. في الأفق، كانت هناك عيون أخرى ترصده... عيون تعرف اسمه، وتنتظر لحظة ظهوره. عيون ريفن.
ولم يكن يعلم، أن الخريطة التي يحملها، كانت المفتاح لعهد دموي جديد.
نهاية الفصل الخامس.
Comments