الفصل الثاني: انعكاس على رماد

مرت سنوات على المجزرة، لكن الرماد لا يزال عالقًا في ذاكرة فيلوس. لا يمر يوم دون أن يشم في أنفاسه رائحة اللحم المحترق، دون أن يرى في نومه وجه والدته وهي تحاول حمايته بجسدها النحيل. الحياة بعد ذلك الحدث لم تكن حياة بل نوعٌ من السُبات... لا موت كامل، ولا يقظة تامة.

كبر فيلوس في دير قديم يقع على أطراف الجبال السوداء، حيث جمعه القدر برجل غريب يدعى آيتُور. لم يكن شيخًا ولا راهبًا، بل فيلسوفًا محاربًا نُفي من أحد الممالك الكبرى بعد أن رفض طاعة الملك. في عيون القرويين، كان مجنونًا. لكن في نظر فيلوس، كان نافذًا كالسيف، عميقًا كالجراح.

كان آيتور هو أول من قال له:

> "الألم يا ولدي، ليس عدوك، بل هو بوصلتك. لا تُغلق عينيك عنه، بل انظر من خلاله."

كان حديثه دائمًا غريبًا، فلسفيًا، يخلط بين السخرية والعمق. علّمه كيف يقرأ، كيف يتأمل، كيف يطرح الأسئلة بدل أن يبحث عن الأجوبة. لكن آيتور لم يعلمه القتال بعد، بل حرص على بناء الداخل قبل الخارج.

في أحد الأيام، جلسا معًا تحت ظلّ شجرة جرداء تطل على وادٍ عميق. الهواء كان يحمل برودة تعكس وحدة هذا المكان.

قال آيتور:

> "هل ما زلت تفكر في الانتقام؟"

أجاب فيلوس دون تردد:

> "كل يوم."

ابتسم آيتور:

> "وأنت تظن أن الانتقام سيشفيك؟"

> "لن يشفيني، لكن سيجعلهم يتذوقون بعضًا مما ذُقته."

هز آيتور رأسه:

> "الغضب وقودٌ جيد للبدء، لكنه سمٌ إن لم تتحكم به. الانتقام يا فيلوس، لا يُعيد الموتى، بل يقتلك معهم."

لم يجب الفتى، لكنه شعر بأن الكلمات تزرع بذورًا داخله، بذورًا تحتاج وقتًا لتنمو.

مرت أيام تلو الأخرى، وبدأ آيتور يُدرّبه على فنون العقل أولًا: الشطرنج، المنطق، التفلسف، النقاش. أراد منه أن يُصبح إنسانًا لا مجرد أداة قتل. لكن فيلوس كان يلح:

> "علّمني القتال!"

وفي إحدى الليالي، دخل آيتور إلى كوخه، وألقى أمامه سيفًا خشبيًا، وقال:

> "غدًا تبدأ أولى خطواتك نحو القوة، لكن تذكّر: الجسد آلة، أما العقل فهو السيّد."

بدأ التدريب قاسيًا. آيتور لم يرحمه، لم يترك له لحظة راحة. جعل منه تلميذًا متواضعًا، يُضرب ويسقط، ثم يقوم ويتعلم. كان يكرّره على جملة واحدة:

> "أنت لست خاصًا بعد، لا تظن أن الألم الذي عشته يجعلك بطلًا. الجميع لديه جراح، لكن القلة من يحوّلها إلى درع."

خلال هذه الفترة، التقى فيلوس بصبية من القرية تدعى إيلينا، فتاة جميلة تحمل بداخلها شجاعة نادرة. كانت تأتي للدير لتجلب الطعام، لكنها كانت تبقى أحيانًا لتتحدث مع فيلوس. شيئًا فشيئًا، بدأت كلماتها تُحيي في قلبه شعورًا كان قد نسيه: الأمل.

قالت له يومًا:

> "أعرف أن في داخلك نارًا... لكن لا تجعلها تحرقك. اجعلها تضيء لك الطريق."

ضحك ساخرًا:

> "الطريق؟ أنا لا أرى إلا رمادًا."

نظرت في عينيه:

> "من الرماد يولد الطائر، أليس كذلك؟"

كان لقاؤهما نادرًا لكنه دائم الأثر. أضافت شيئًا آخر في قلبه بجانب الحقد: الفضول، الفضول ليعرف كيف تعيش الأرواح التي لم تحترق بعد.

في أحد الأيام، جاء رجل غريب إلى القرية، مغطى بالندوب، يحمل وشمًا يدل على إحدى العائلات السبع الكبرى. جلس مع آيتور سرًا، ثم رحل في الليل. شعر فيلوس بشيء ما يتغيّر، فذهب لمواجهة معلمه:

> "من هذا؟"

> "ماضٍ يحاول أن يستيقظ."

> "هل له علاقة بمن قتل عائلتي؟"

آيتور صمت، ثم قال:

> "ربما... لكن لم يحن الوقت."

زاد ذلك الغموض من عطش فيلوس للمعرفة. شعر أن كل من حوله يخفون عنه شيئًا. لماذا لم يخبره آيتور كل شيء؟ ما هي تلك العائلات؟ ولماذا يبدو أن الجميع يخاف ذكر أسمائها؟

مرت سنة أخرى، وأصبح جسده أقوى، وروحه أكثر اتزانًا، لكن عينيه ما زالت تحمل نارًا مشتعلة.

وفي إحدى الليالي، اقترب آيتور منه، وسلّمه خريطة قديمة:

> "لقد حان الوقت لتغادر هذا المكان. في هذه الخريطة، ستجد طريقك نحو أحد معاقل العائلات السبع. لكن لا تذهب كبطل... بل كظل."

> "لماذا الآن؟"

> "لأنك لم تعد مجرد ضحية. أصبحت شيئًا آخر، ولا بد أن تعرف من أنت حقًا."

في تلك الليلة، ودّع إيلينا. كانت دموعها صامتة، لكن يدها كانت قوية حين أمسكت بيده:

> "عد لي، لا كقاتل، بل كإنسان."

ومع أول ضوء للفجر، غادر فيلوس الدير، حاملاً رماد الماضي، وسيف الأمل. وجهه لا يحمل براءة الطفولة، لكن بداخله... لا تزال هناك بقية منها، تنتظر لحظة تحول.

كانت هذه بداية الرحلة.

بداية نشيد اللامعنى.

---

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon