كان الليل قد غطّى الغابة بعباءته السوداء، حينما مشى فيلوس بصمت وسط الأشجار العالية، لا صوت سوى حفيف الأوراق، ولا نور إلا انعكاسات القمر الخافتة. كان قلبه يئن كجرح مفتوح، وعيناه متورمتان من البكاء. لقد مرت أيام على فراره من القرية، منذ تلك الليلة السوداء التي رأى فيها النيران تلتهم بيته، وأجساد أفراد عائلته تتهاوى أمامه، ولم يكن يستطيع فعل شيء سوى الهرب.
وصل إلى وادٍ صخري تحيط به جبال مكسوة بالضباب. وهناك، بالقرب من شلال صغير، وجد كوخًا بدائيًا، تنبعث منه رائحة الخشب المحترق والأعشاب الطبية. قبل أن يتقدم، سمع صوتًا خشنًا يناديه:
"لقد تأخرت، يا من حمل الندبة في عينيه."
تجمّد في مكانه، رفع عينيه ببطء، فرأى رجلاً مسنًا، طويل القامة، ذا لحية رمادية كثيفة، وملامح محفورة كما لو كانت نقشتها آلاف السنين. كانت عيناه كأنهما تقرآن ما وراء الزمن.
قال الرجل، وهو ينظر إليه بثبات: "أدخل، يا فيلوس. الجرح لا يلتئم بالهرب، بل بالفهم."
**...
جلس فيلوس على حصير بسيط، محاطًا بأعشاب وتجهيزات غريبة. راقب الرجل العجوز، الذي كان يُعرف باسم "زيروخان"، وهو يحرك إناءً فوق النار.
"من أنت؟ وكيف عرفت اسمي؟" سأل فيلوس، وعيناه تمتلئان بالريبة.
ابتسم زيروخان بسخرية، وقال: "من يبحث عن الحكمة، لا يسأل من أين تأتي. بل يتساءل: هل يستحقها؟"
كان زيروخان فيلسوفًا غريب الأطوار، عاشقًا للعزلة، منفيًا من الممالك الكبرى بسبب آرائه الغريبة في الوجود والقوة. لكنه كان أحد حاملي المعرفة القديمة، ممن يعرفون أسرار الطاقات الأولية ونظام القوى المتشعب الذي انبثقت منه عائلات العالم السبع.
قال زيروخان وهو يصب مشروبًا عشبيًا لفيلوس: "أنت تبحث عن انتقام، وهذا طبيعي. ولكن...
"ولكن ماذا؟" قاطعه فيلوس.
"ولكن، هل تعرف من أنت قبل أن تعرف من قتلهم؟ هذا هو السؤال الأول."
كانت هذه الليلة بداية تحوّل جذري. زيروخان لم يدرّب جسد فيلوس فقط، بل عقلَه وروحه. درّبه على التأمل، على الإنصات للطبيعة، على تحمل الألم بدون أن يهزم، وعلى قراءة الفلسفة من خلال القتال.
**...
مرت شهور، وصار فيلوس يرى العالم بشكل مختلف. لم تعد القوة عنده مجرد عضلات أو غضب مكبوت. بل صارت تمرينًا مستمرًا في الانضباط.
ذات مساء، وأثناء تدريب شاق بالسيف، سأل زيروخان:
"ما الفرق بين الوحش والإنسان، يا فيلوس؟"
ردّ الشاب وهو يلهث: "الوحش يقتل بلا هدف، الإنسان يقتل من أجل العدالة."
هزّ زيروخان رأسه: "لا، الوحش لا يعرف المعنى. أما الإنسان، فهو يخترع معاني ليتجنّب رؤية حقيقته العارية."
نظر فيلوس إلى سيفه، وتذكّر والده وهو يهوي صريعًا. صمت طويل خيّم بينهما.
قال زيروخان بهدوء: "حينما تحارب في المستقبل، لا تسأل نفسك فقط من هو عدوك، بل اسأل: ماذا يمثل؟"
**...
في أحد الأيام، وبينما كان فيلوس يتأمل عند حافة الشلال، رأى فتاةً غريبة تتقدم وسط الضباب. كانت ترتدي عباءة سوداء، وتحمل على ظهرها رمحًا مزخرفًا. كانت جميلة، بعينين حادتين كأنهما تخفيان مجرة من الأسرار.
توقفت أمامه وقالت:
"هل أنت هو؟ التلميذ الذي يعتقد أنه يستطيع فهم الألم؟"
"ومن تكونين؟"
"اسمي إيريس. وأنا هنا لأراقبك... فقط."
ومن تلك اللحظة بدأت علاقة معقدة بين فيلوس وإيريس، علاقة تشبه رقصة بين الظلال والنور، مليئة بالتصادمات الفلسفية والاعترافات المريرة. كانت تنتمي لعائلة "سيغنار"، إحدى العائلات السبع الكبرى، وكان وجودها بحد ذاته لغزًا.
**...
وفي إحدى الليالي، وبينما كان زيروخان يشرح لفيلوس نظرية اللامعنى لدى شوبنهاور، قال له:
"البشر يا ولدي، لا يخافون الموت... بل يخافون أن لا يعني موتهم شيئًا."
سكت، ثم أضاف: "ولهذا، يتشبثون بالقوة، بالانتقام، بالحب، بأي شيء يجعلهم يعتقدون أن وجودهم ليس عبثًا."
رفع فيلوس عينيه وسأل: "وأنا؟ ماذا يعني وجودي؟"
أجابه زيروخان: "أنت لست شيئًا بعد. لكنك قد تصير شيئًا. هذا هو الخيار الوحيد الذي نملكه، أن نخلق أنفسنا، رغم العدم."
**...
انتهى الفصل على مشهد لفيلوس، وقد بدأ يحفر في الصخر بسيفه، ينحت تمثالًا بسيطًا، رمزيًا لأسرته. لم يعد يبكي، بل كان وجهه صلبًا، وعيناه مليئتان بتصميمٍ عميق لا يعرف الرحمة.
في الخلفية، كانت إيريس تراقبه بصمت، بينما الريح تعبث بشعرها.
همست: "هل سيبقى إنسانًا؟ أم أنه سيصير شيئًا آخر؟... سنرى."
---
Comments
Serrano manga
الفصل الثالث رائع بدنا تشويق أكثر
2025-04-20
2