في صباح اليوم التالي، كانت إيمان تجلس بجانب نافذتها الصغيرة في غرفتها، التي كانت تطل على الحديقة الواسعة المغطاة بالأشجار الكثيفة، وأشعة الشمس الخافتة التي كانت تحاول اختراق غيوم السماء. كان الجو مشبعًا بالخريف، الهواء كان محملاً بالبرد الخفيف الذي يُداعب الوجوه، وكأن العالم من حولها كان في حالة خرس، تمامًا كما كان قلبها.
أفكارها لم تكن هادئة، بل كانت مثل بحر هائج. كان وجه آدم يتكرر أمام عينيها، بكلامه الغامض الذي ترك جروحًا عميقة في روحها. "الحريق لم يكن حادثًا. كان مدبرًا. كان رسالتك." كانت تلك الجملة تلاحقها بلا رحمة، تتردد في ذهنها كلما حاولت أن تجد مخرجًا من هذا الواقع المظلم. الحريق الذي دمر عائلتها لم يكن مجرد حادث عابر، بل كان جزءًا من مؤامرة أكبر، خطة أعمق بكثير مما كانت تستطيع تخيله.
لكن السؤال الذي بقي يدور في رأسها كان: من هو آدم؟ هل كان هو الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يكشف لها الحقيقة؟ أم أنه كان جزءًا من اللعبة نفسها، لعبة تتلاعب بها الأيدي الخفية التي أدت إلى مقتل أسرتها؟
بينما كانت تفكر في ذلك، شعرت بشيء غير مريح يسري في المكان. كان هناك شيء في الهواء، في الزمان والمكان، شيء كان يجذبها إلى مكان مجهول، كما لو أن الأرض تحت قدميها بدأت تتحرك، وتبتعد بها عن أي فكرة كانت تملكها عن الأمن والراحة. كان إحساسًا غريبًا، وكأنها كانت على وشك أن تكتشف سرًا لا تستطيع تحمله.
عندما غادر آدم في اليوم السابق، ترك وراءه شعورًا غريبًا في قلبها، شعورًا بأن العالم الذي كانت تعرفه بدأ يتفكك. كانت تتساءل: كيف يمكن أن يكون كل شيء مزيفًا؟ هل كانت عائلتها حقًا جزءًا من مؤامرة كبيرة؟ هل كانت ستكتشف يومًا أن كل ما حدث كان مدبرًا من قبل أشخاص لا تعرفهم؟
في تلك اللحظة، تذكرت حديث والدها قبل أن يموت، حديثه الذي تكرر في أوقات عديدة، وكان دائمًا يقول لها: "إيمان، الحياة ليست كما تبدو. الناس يمكن أن يرتدوا أقنعة، لكن يجب أن تعرفي كيف تميزين الحقيقة من الخداع." كانت هذه الكلمات تحلق في ذهنها كريشة في الريح، وكأنها تحاول أن توجهها إلى طريق لم تكن قد سلكته بعد. هل كان والدها يعرف شيئًا أكثر مما كان يظهر؟ وهل كان قد حاول تحذيرها دون أن تدري؟
توجهت إيمان إلى مكتبة الدار الصغيرة، حيث كانت تفضل أن تقضي ساعات طويلة في القراءة. ولكن اليوم كانت تبحث عن شيء آخر، شيء لم تفهمه من قبل. كانت هناك دفاتر قديمة تركها لها والدها في مكتبه، وعندما فتحت إحداها، شعرت كما لو أنها تفتح بابًا إلى ماضٍ غريب.
كانت الدفتر مليئًا بملاحظات غير مكتملة، رسائل مشوشة، أسماء قد تبدو عادية لكنها كانت تحمل تلميحات غريبة، تواريخ وأماكن كانت تشير إلى شيء ضبابي. شعرت إيمان بشيء غير مريح يعصف بها بينما كانت تطالع هذه الصفحات. كانت الأسماء تتكرر، بعضها كان لرجال أعمال، والبعض الآخر لأشخاص لا تعرفهم، لكن كان هناك شخص واحد تكرر اسمه مرارًا: "رشيد العساف."
لم يكن هذا الاسم غريبًا تمامًا. تذكرت أنه كان أحد الأصدقاء المقربين لوالدها، وكان هناك نوع من العلاقة المعقدة بينهما، علاقة لا تستطيع إيمان أن تضع يدها عليها. كان رشيد العساف يتردد على بيتهم كثيرًا في السنوات الأخيرة التي سبقت الحريق، ولكن إيمان لم تكن تعرف ما كان يجري وراء الأبواب المغلقة.
لكن الآن، كان يبدو أن تلك العلاقة كانت أكثر تعقيدًا مما تخيلت. كان اسم "رشيد العساف" يتكرر في كل صفحة تقلبها، كما لو أن والديها كانا على معرفة بأسرار لا يمكن أن تتخيلها. كان هذا الاسم يرتبط بشبكة من العلاقات التي تزداد ضبابية كلما تأملت فيها.
فجأة، وقع نظرها على شيء كان في زاوية الصفحة الأخيرة: "خطة الانتقام - رشيد العساف." كانت هذه الكلمات كالصاعقة. هل كانت تعني أن والديها كانوا على علم بما سيحدث؟ هل كانوا قد خططوا لشيء كبير، وكانوا جزءًا من مؤامرة أكبر؟ أم أن والدها كان يحاول حماية عائلته بطريقة لم تفهمها في ذلك الوقت؟
في تلك اللحظة، شعرت إيمان وكأنها عادت إلى نقطة البداية. كل شيء بدأ يتداخل، كأنها تسبح في بحر من الضباب لا تستطيع أن تراه بوضوح. كان عقلها مشوشًا، وداخل قلبها بدأت تتنامى مشاعر من الخوف والحيرة. هل كانت على وشك اكتشاف شيء كان من الأفضل أن تبقى جاهلة به؟ هل كان هذا هو الوقت الذي يجب أن تتوقف فيه عن البحث؟
لكن قبل أن تتمكن من التفكير أكثر، كان هناك صوت طرق على الباب. رفعت رأسها بسرعة، وعيناها تغلق على دفتر ملاحظات والدها. وعندما فتحت الباب، وجدته هناك، واقفًا أمامها كما لو أنه كان ينتظرها. كان آدم. كان ينظر إليها بجدية، وعيناه تحملان نظرة عميقة لم تكن تستطيع تفسيرها.
"إيمان، هناك شيء مهم يجب أن تعرفيه"، قال بصوت هادئ، ولكنه كان يحمل في طياته تهديدًا خفيًا. "إذا قررت أن تتابعي هذا الطريق، فلا تظني أن العودة ستكون ممكنة. الحقيقة التي ستكتشفينها قد تكون أكثر من قدرتك على تحمّلها."
توقف لحظة، ثم أضاف: "لكن إذا اخترت أن تتابعي، فالأمر قد يبدأ الآن. لدينا وقت ضئيل، وهناك من يراقبنا."
كان حديثه بمثابة الضوء الأحمر في عقلها، لكن في قلبها كان هناك شعور آخر، شعور بالضرورة. الحقيقة كانت تطاردها، ولن تستطيع الهروب منها بعد الآن .
13تم تحديث
Comments