كان الشارع خاليًا، يغمره الظلام إلا من إشعاعات ضوء خافتة تتسلل عبر النوافذ المكسورة والمصابيح المتداعية. وكان الهواء البارد يلفح وجه إيمان بينما كانت تسير بخطوات ثقيلة وكأن كل خطوة تقطعها تقربها أكثر من الهاوية. كانت قد اختارت أن تسلك طريقًا مليئًا بالأسئلة التي لا جواب لها، وكلما اقتربت من الإجابة، شعرت بأنها تغرق أكثر في بحر من الغموض.
لم تكن تدرك أن تلك الزيارة إلى منزل رشيد العساف ستكون النقطة التي تحول فيها حياتها إلى سلسلة من الأحداث المتسارعة، كانت تعرف فقط أن أقدامها لم تعد تقف على الأرض الثابتة، وأنها الآن على حافة اكتشاف حقيقة قد تهدم كل ما كانت تعرفه.
في تلك اللحظة، كان قلبها ينبض بسرعة غير معتادة، وكان عقله يتنقل بين مشاهد متفرقة: والدها يهمس في أذنها بكلماتٍ غامضة، "لا تثقي بكل من حولك، إيمان. الناس يخفون ما لا يمكنك تحمله." كلمات والدتها، التي كانت ترددها دائمًا، "الحياة ليست أبدية، لكنها يمكن أن تكون طويلة بما يكفي لتعلمك أن الناس يمكن أن يكونوا كالأقنعة." ثم هناك أيضًا تلك اللحظات التي كانت تسترجع فيها حركاتهم، نظراتهم، كل شيء كان يبدو طبيعيًا، ولكن هل كان حقًا كذلك؟
وقفت أمام باب المنزل الضخم لرشيد العساف، وأيديها تتشنج من التوتر. كان الباب مغلقًا بإحكام، وفي داخلها كانت تتصارع مشاعر متضاربة. هل ستلتقي بشخص يستطيع أن يجيب على أسئلتها؟ أم أنه سيزيد من غموض تلك اللحظات التي لا تحتمل؟ هل كانت هي من يجب أن تضع تلك الأسئلة أمامه، أم أنها مجرد جزء من اللعبة نفسها؟
طرقت الباب بخفة، ثم انتظرت للحظات طويلة قبل أن تسمع صوت خطوات قادمة من داخل المنزل. كان الصوت خفيفًا، كأنها خطوات غير مطمئنة، لكن عندما فتح الباب، شعر قلب إيمان وكأن الزمن توقف. كان رشيد العساف يقف أمامها، على الرغم من أنه لم يكن شخصًا طويلاً أو ضخمًا، إلا أن نظراته كانت عميقة وحادة، كأنها قد تقطع أي شخص يقف أمامه.
كان يراقبها بصمت قبل أن يبتسم ابتسامة ضيقة، كأنها ابتسامة تعلم كل شيء، وكل شيء كان يحمل في طياته سرًا مظلمًا. "إيمان، أتساءل ما الذي جاء بكِ إلى هنا؟" قال ذلك بنبرة هادئة، ولكنه كان يخبئ وراء صوته الكثير من المعاني الخفية. كان كما لو أن كل شيء كان مجرد جزء من لعبة، لعبة يبدو أنها لم تكن تعرف قواعدها بعد.
لم تعرف إيمان ماذا يجب أن تقول. كانت كلماتها تتناثر في عقلها، ولكنها لم تستطع التقاطها. جلست على الكرسي المريح الذي دله عليها رشيد، وأخذت لحظة لتسترجع أنفاسها. كان المكان مظلمًا، مليئًا بالصور القديمة والكتب التي لا تعد ولا تحصى. كانت الصور التي تغطي الجدران غريبة، وكأنها تنتمي إلى عوالم أخرى، عوالم قديمة ومعتمة. كل صورة كانت تحمل شيئًا في عيون الأشخاص فيها، شيئًا غير عادي، شيئًا يشبه الأسرار التي يجب أن تظل مخفية.
"هل تعلم ما الذي أبحث عنه؟" قالت إيمان أخيرًا، صوتها منخفض، وعينيها لم تفارقا عينيه. كانت ملامحها تعكس رغبة قوية في الحصول على إجابات، رغبة كانت تكاد تقتلها.
رشيد نظر إليها بتمعن ثم أضاف، "أنتِ تبحثين عن الحقيقة، أليس كذلك؟ لكن هل تعلمين ما هي الحقيقة؟ هل تعرفين ما الذي ستواجهين بعد أن تجدينها؟" كانت كلماته تحمل نوعًا من التحذير، وكأنها كانت تحدد الخطوط الحمراء التي لا ينبغي أن تتجاوزها.
"أريد أن أعرف ماذا حدث لعائلتي، رشيد. أريد أن أعرف لماذا قُتلوا. لماذا حدث الحريق؟" قالت إيمان، ونبرتها كانت تحمل الغضب والقلق، والدموع كانت على وشك أن تنهمر من عينيها. كان قلبها يختنق، ولكنها كانت مصممة على معرفة كل شيء.
"أنتِ تظنين أن الحريق كان مجرد حادث، أليس كذلك؟" قال رشيد مبتسمًا ابتسامة خفيفة، ولكن عينيه كانتا تعكسان شيئًا من الندم. "إيمان، الحريق كان رسالة، وكان مخططًا له. كان جزءًا من شيء أكبر مما تعتقدين."
إيمان شعرت بأن الكلمات التي قالها كانت بمثابة صدمة أخرى. كانت قد ظنت أن الحريق كان مجرد نهاية عابرة، نهاية لحياة مليئة بالأمل. لكن الآن، بدأت تشعر بأنها كانت تعيش في عالم من الأوهام. ما الذي كان يقصده رشيد؟ ما الذي كان يخبئه وراء تلك الكلمات؟
أخذ رشيد نفسًا عميقًا قبل أن يتكلم مرة أخرى. "والدك، كان يحقق في شيء أكبر مما كنتِ تتصورين. كانت عائلتك جزءًا من شبكة سرية. ليس كل شيء كان كما يبدو. هناك من كان يسعى وراء تحقيق مصالحه على حساب الجميع. وكانت عائلتك جزءًا من هذا المخطط."
"لكن لماذا؟ لماذا كان على والديّ أن يكونا جزءًا من هذا؟" سألته إيمان بصوت مرتعش، عيونها تتسع كأنها لا تصدق ما تسمعه.
"لأن والدك كان يسعى للعدالة، إيمان. كان يريد أن يكشف السر الأكبر، السر الذي كان من شأنه أن يهز النظام برمته. لكن هناك من لا يمكنهم السماح بذلك. وعندما بدأوا في اكتشاف نوايا والدك، كانت تلك اللحظة التي قرروا فيها القضاء على كل من كان قريبًا من الحقيقة."
في تلك اللحظة، بدأ كل شيء يصبح أكثر وضوحًا بالنسبة لإيمان، ولكن في نفس الوقت، أصبح أكثر تعقيدًا. كانت العائلة التي نشأت فيها، الحياة التي كانت تعيشها، كلها كانت مجرد أكاذيب مبنية على أكاذيب. هل كان والدها يحاول حمايتها من شيء أكبر؟ أم أنه كان جزءًا من لعبة سيئة لن ينقذها منها أحد؟
"هل كنتَ جزءًا من هذا كله؟" قالت إيمان، وعيناها تحدقان في رشيد. كانت عيناها مليئتين بالأسئلة والقلق، وكأنها كانت تقترب من حافة هاوية لا تستطيع العودة منها.
رشيد أغمض عينيه لبضع ثوانٍ ثم نظر إليها بجدية، "أنا هنا لأكشف لكِ الحقيقة. لكن الحقيقة، إيمان، ليست كما تظنين. ستجدين نفسك في دوامة لن تنتهي. والقرار الآن بين يديك."
في تلك اللحظة، شعرت إيمان وكأنها كانت تمسك بنهاية خيط، لكنها كانت لا تعرف إلى أين سيقودها هذا الخيط. كان الطريق أمامها مظلمًا، ولكنها كانت تعلم أنها لا تستطيع التراجع الآن. إذا كانت قد بدأت في اكتشاف الحقيقة، فلا مجال للعودة إلى الوراء.
13تم تحديث
Comments