مضت الأيام التي تلت الحريق وكأنها تتسرب عبر أصابع الزمن، لا يلتقطها أحد ولا يعيدها شيء. كانت إيمان، الناجية الوحيدة، تجلس في غرفة صغيرة داخل دار الأيتام التي أخذتها إليها السلطات بعد الحادث. المكان كان كئيبًا، جدرانه تفتقر إلى الألوان، والهواء الثقيل كان يذكرها بالحريق الذي اجتاح كل شيء. الغرف كانت مكتظة بأطفال فقدوا أهاليهم كما فقدت هي عائلتها، إلا أن نظراتهم كانت أكثر هدوءًا، وكأنهم اعتادوا على الحزن. أما إيمان، فقد كانت لا تزال غارقة في بحر من الأسئلة، تبحث عن إجابات لم تجدها بعد.
كان في عينيها شيء غريب، شيء غير قابل للشرح، كما لو أن الحريق لم يكن مجرد حادثٍ عادي، بل كان بمثابة جسرٍ للعبور إلى واقعٍ آخر. الواقع الذي كانت قد نُزعت فيه تلك الأجوبة السهلة التي اعتادت عليها. كانت تعلم أن شيء ما كان مخفيًا في الظلال، شيء ما كان يدفع بها إلى التحديق في الزمان والمكان بلا رحمة، لتكتشف ما كان وراء ذلك. لكن هذا الشعور بالضياع كان يعصف بها، وكلما حاولت أن تجد إجابة، تجد نفسها تغرق أكثر.
كان وجهها شاحبًا، وعيناها مكحولتين من السهر والقلق. في الليل، لا تستطيع النوم، فكأن الليل يتراكم في ذاكرتها، يذكرها بحرق والديها، بحرق أحلامها، بحرق كل شيء حولها. كانت تتقلب في سريرها داخل غرفتها الضيقة، وتسمع أصواتًا تثير في قلبها رعشة من القلق، أصواتًا كانت تأتي من بعيد، من حيث لا تدري، وكأنها تطاردها، تلاحقها. لكن ما أثار خوفها أكثر هو هذا الشعور بوجود شيء غامض يراقبها، يرقب تحركاتها، وكأن هناك من يريد أن يقطع خيوط الأمان التي كانت تحاول بناءها.
في اليوم التالي، وعندما قررت أن تخرج لتتنفس بعض الهواء النقي في فناء الدار، لفت نظرها شخصٌ غريب، رجلٌ طويل القامة، ذو ملامح حادة، عينيه مظلمتين كأنهما تختبئان خلف سرٍ عميق. لم يكن من سكان الدار، بل كان يقف عند بوابتها يتأمل المكان بنظرةٍ غريبة، وكأن العالم حوله لم يعد يعنيه شيئًا. لم يكن وجهه معروفًا لها، ولكن إحساسًا غريبًا بانقباض القلب جلبه هذا الرجل.
اقتربت منه ببطء، ولم تقدر على تفسير هذا الشعور الذي كان يسيطر عليها. كان يدير ظهره عندما شعرت بأنها كانت على وشك أن تتحدث، لكن فجأةً، التفت إليها.
"أنتِ... إيمان؟" قالها بصوتٍ خافت، كما لو أنه كان يعلم بالضبط من هي.
شعرت إيمان بنبض قلبها يتسارع، لم تكن تعرفه، ولم يكن في ذاكرتها أي صورة قد تكون له. لكن الأغرب من ذلك كان شعورها أنه يعرفها، وأنه كان يتتبعها منذ فترة طويلة. كان هناك شيء في صوته، في نظراته، جعلها تشعر بأن هذه اللحظة كانت مفصلية في حياتها.
"نعم، أنا إيمان"، قالتها بصوتٍ خافت، غير متأكدة مما يجب أن تفعله. لكن الرجل لم يبدُ عليه أي ارتباك، بل ظل ينظر إليها بنظرةٍ غامضة، ثم قال: "أحتاج إلى مساعدتك. أحتاج إلى أن تعرفي الحقيقة."
تجمدت إيمان في مكانها. كان حديثه مفاجئًا، والحديث عن "الحقيقة" كان أحد الأمور التي كانت تلاحقها طوال تلك الأيام. ماذا كان يعني؟ ما الذي كان يعلمه هذا الرجل عن الحريق؟ لماذا كان يلمح إلى شيء غامض لا تعرفه؟ كانت الأسئلة تتوالى في رأسها، لكن قبل أن تستطيع أن تسأله أي شيء، أضاف الرجل، وكأنما قرأ أفكارها: "ليس الآن، ولكننا سنلتقي مجددًا. هذا ليس المكان المناسب."
ثم، كما جاء، اختفى الرجل في الزحام، تاركًا إياها غارقة في حيرتها. عادت إيمان إلى غرفتها، حيث كان كل شيء يبدو أكثر وحدة مما سبق. كان هذا اللقاء بمثابة ضوءٍ خاطف في ظلام متراكم، ولكنه لم يفسر شيئًا. لم يكن لديها أي فكرة عما يمكن أن تعنيه كلمات هذا الرجل.
مرت الأيام بسرعة، لكن قلبها ظل ينبض بتساؤلاتٍ لم تجد لها إجابة. كان الصوت في رأسها يصرخ: "من هذا الرجل؟ ماذا يعرف عني؟ عن الحريق؟ عن السبب؟" كان كل شيء يبدو متشابكًا، كأنها بدأت تسير في طريقٍ لا يمكن الرجوع عنه.
وفي يوم آخر، بينما كانت تتجول في الحديقة المحيطة بالدار، شعرت بشيء غريب: كان هناك شخص آخر يراقبها من بعيد. نظرت بإمعان، فإذا به الرجل نفسه. كان يقف على أطراف الحديقة، يراقبها بهدوء كما لو كان ينتظر لحظة ما. عندما لمحته، اقترب منها بخطواتٍ ثابتة، وقال بصوتٍ منخفض:
"أعرف ما تفكرين فيه، إيمان. لكن الحقيقة لن تكون سهلة. يجب أن تكوني مستعدة لتدفع الثمن."
ثم، من دون أن يضيف كلمة أخرى، التفت واختفى في الظلال. كانت تلك الكلمات هي التي سيطرت على ذهنها طوال الأيام التالية: "دفع الثمن". ما الذي يعنيه بذلك؟ ماذا يجب أن تدفع؟
في تلك اللحظة، بدأ شعور غامض يطارد إيمان، شعورٌ بأن الحقيقة التي كانت تبحث عنها كانت أكثر قتامة مما تصورت. بدأت تشعر أنها كانت تمضي في طريقٍ لا مفر منه، وكأن جميع العلامات تشير إلى أن الحريق لم يكن حادثًا كما ظنت، بل كان بداية شيئٍ أكبر بكثير، شيء كان يختبئ في الظلال، ينتظر اللحظة المناسبة ليظهر.
13تم تحديث
Comments