ظلال الحقيقة

ظلال الحقيقة

الفصل الأول: حريق الليل

في الزمان الذي لا يتسع فيه الكلمات لوصف ما يجري بين سطور الحياة، كانت إيمان ترفع حاجبيها قليلاً كلما مرّت بذاكرتها فكرة غريبة: هل كان وجودها في هذه المدينة الصغيرة هبة أم لعنة؟ المدينة التي كانت تجثم على أطراف الجبال، تلك التي تبدو ساكنةً، كأنها تنتظر شيئًا في الخفاء، شيءً ينتظر اللحظة المناسبة لينفجر. والحياة هناك كانت كالساعة القديمة، عقاربها تتحرك ببطء، كل يوم يشبه الآخر، حتى أن الحالمين كانوا يعتقدون أن المدينة قد توقفت عن النمو منذ مئات السنين. في الظاهر، كان كل شيء طبيعيًا. والناس يمرون تحت أسطح السماء الباهتة وكأنهم لا يعيشون سوى من أجل الاستمرار.

لكن إيمان، التي كانت تدرك أن للمدينة أسرارًا تغطيها الغيوم، كانت تختلف عن البقية. كانت تحمل داخل قلبها شيئًا أكثر وضوحًا، شعورًا دفينًا أن كل شيء حولها لا يمكن أن يكون مجرد سلسلة من الأيام المتشابهة. كانت تعرف أن هناك ما هو أبعد من المدى الذي تراه عيون الناس، أفقًا غير مرئيّ يسكن بين جنبات الزمن. كانت تشتاق إلى سؤالٍ لم تجد له جوابًا حتى ذلك اليوم الذي غير كل شيء.

في تلك الليلة، كان القمر مكتملًا، يشع ضوءًا باهتًا يعلو عن رؤوس الأشجار، في المدينة التي كانت قد استعدت لاستقبال المساء. النوافذ في بيوت المدينة كانت موصدة كما العادة، ولكن إيمان كانت تفضل أن تظل يقظتها متحفزة رغم السكون. لم يكن قلبها يهدأ، فقد كانت هناك غيمة ثقيلة في سماء أعماقها. شعور غريب لا يمكن تفسيره كان يلاحقها، كأن هناك شيئًا غير مرئي يتربص بها، يراقب حركاتها، يترقب زلاتها، ليقلب حياتها رأسًا على عقب.

وتسرب الوقت عبر أصابعها وكأنها لم تعش لحظاتٍ قصيرة، لكنها بدأت تشعر بشيء لا يُحتمل. شعورٌ ثقلٌ يملأ صدرها، تتبعته نظراتٌ قلقة تمسح السماء، التي كانت قد بدأت تكتسي بلونٍ غير مألوف، كما لو أنها تستعد لإظهار شيءٍ مرعب. في البداية، كان الضوء الذي اكتسح السماء ليس سوى انعكاسٍ ضئيل، ربما من ضوء شاحبة. لكن تدريجيًا، بدأ يظهر وكأنه شعلةٌ نارية تقترب أكثر وأكثر من المدينة، تحمل بين ألسنتها نذرًا مريبًا. وفي تلك اللحظة، ارتجف قلب إيمان.

لم تكن تعرف كيف ولماذا، لكن شيئًا في أعماقها بدأ ينبض بعنف، كأن قلبها أخذ يتسارع مع كل دقيقة تقترب فيها النيران منها، كانت تحس بأن هناك شيئًا عميقًا في فوضى الليل لا يمكن تجاهله. العيون التي كانت تراقب الليل، كانت تراه في صورة ألسنة اللهب التي تسللت عبر زوايا الذاكرة. شيء ما يتحرك في الظلام، يقترب، ويشعل بين جدران حياتها النار.

ركضت، دون أن تدرِ لماذا، دون أن تفكر، إلى غرفة شقيقها الصغير الذي كان ينام في أمانٍ بالغ. نادت عليه بأسمائه، ولكن الصوت كان خافتًا، خافتًا جدًا بحيث لا يقدر على تخطي الصمت الذي يحيط بالأحداث. كانت الغرفة مظلمة، كان كل شيء فيها عميقًا، مظلمًا، كما لو أن كل شيء كان مغلقًا في فقاعة وهمية. سحبته، ربت على يده بصوتٍ غير مدرك، بينما ألسنة اللهب كانت تقترب أكثر وأكثر، وكان قلبها يرتجف، لكنه لا يُسمع في الضجيج الذي بدأ يتسلق الجدران. حين نظرت إلى الخارج، كان كل شيء يشتعل.

الحرارة بدأت تعصر قلبها. جدران المنزل التي كانت توحي بالأمان كانت تنهار الآن كأحلامٍ معطوبة. الرياح كانت تعوي مع اللهب. الزجاج تحطم، والانفجارات تتناثر حولها، والجدران تشقّق، كل شيء كان يذوب في ألسنة النار. وكان شقيقها يصرخ معها، يتناثر دمعه على خديه كما لو أن الحريق ابتلع الحياة كلها. لم تستطع أن تراه بوضوح، لم تستطع أن تقف مكانه. كانت المسافات بين الزمن والمكان تتسارع. وكلما اقتربت منها النار، ابتعدت عن كل شيء عرفتُه في حياتها.

كانت هناك أصوات تدوي في أذنيها، تتداخل مع صرخات والديها، تتداخل مع انفجارات الشرفات التي تهدمها النار، وكانت هي كما لو أنها فقدت نفسها بين كل هذا الاضطراب. لم تجدهم. لم تجد إلا الفراغ. وكانت نيران الحريق أكبر من أن تُحتمل، أكبر من أن تُحاصر في تلك اللحظة. شعورٌ بأن كل شيء اختفى، وكانت هي وحدها، عاجزة عن إنقاذ ما تبقى من ذلك العالم. شعورٌ بأن الوقت نفسه قد توقف ليجعلها تتأمل انهيار كل شيء حولها.

وها هي إيمان، الناجية الوحيدة من ذلك الحريق المدمّر. كانت تقف في بحرٍ من الرماد، كما لو أنها كائنٌ قادمٌ من عالمٍ آخر، لا يملك أية ذاكرة سوى هذا الواقع الذي يزحف على أطراف أحلامها. وكلما حاولت أن تلتقط أنفاسها، كلما عاد إليها السؤال ذاته: لماذا؟ ماذا حدث؟ هل كان الحريق مجرد حادث؟ أم أن هذا هو الثمن الذي دفعته العائلة لسرٍ دفنته منذ سنين؟

عندما أفقت في اليوم التالي، كان كل شيء قد أصبح مجرد رماد، جثثٌ من الماضي المتناثر. وعند تلك اللحظة، كانت تتساءل بصوتٍ داخلي صارخ: "ماذا لو كانت الحقيقة أفظع مما أتصور؟" كانت المدينة كما لو أنها لم تحتفظ بشيءٍ من الماضي سوى تلك الجثث المحترقة في قلبها، وكانت هي، إيمان، واحدةً من ذلك الضباب الذي يملأ كل شيء. ولكن، هناك شيئًا ما كان يلازمها، شعورٌ غريبٌ، أن هناك يدًا خفية تقف وراء كل شيء، وأن هذا الحريق لم يكن مجرد حادث.

لكنه كان بدايةً لشعورٍ عميق بالمرارة، شعورًا غريبًا بأن ما حدث كان تمهيدًا لشيء أكبر. شيء أعظم. وكانت إيمان لا تعرف أن هذه بداية لغموض لن ينكشف بسهولة، وأن ما ستكتشفه في الأيام المقبلة قد يقلب حياتها رأسًا على عقب. هي الآن بين رماد الماضي، تسأل: هل كانت الحيرة هي الجواب الوحيد؟ أم أن هناك من يقف وراء هذه الحيلة المدمرة؟

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon