الفصل الثالث : بداية الأسرار

لم تكن إيمان قد اختبرت ذلك الشعور من قبل؛ كان كأن الزمان قد توقف، وكأن الكون كله قد اختفى ليظل محصورًا في تلك اللحظة وحدها. كانت تتأمل في السماء الزرقاء التي تلبس عباءة من الغيوم البيضاء، فترتفع أنفاسها مع نسيم الرياح الخفيف الذي يمر من خلال شعرها. كان يومًا هادئًا، لكنه كان في داخلها على النقيض تمامًا، عاصفًا، مشبّعًا بالغموض.

كلما مرَّ يوم، زادت حيرتها. في البداية كانت تظن أن الحريق مجرد حادث، وأن الحياة ستمضي كما كانت قبل ذلك، لكن كل شيء تغير. كانت تكتشف شيئًا جديدًا كل يوم عن نفسها، عن عائلتها، وحتى عن الأشخاص الذين كانت تعتبرهم أصدقاء. بدأ كل شيء في حياتها يتشظى، وكأن الأجزاء التي كانت مكتملة في مكانها بدأ يتسلل إليها الظلام، يهدم ببطء الصورة التي كانت تراها حقيقية.

أصبح الوقت يمر بطيئًا جدًا في دار الأيتام، لكنها لم تستطع الهروب من الواقع الذي كان يلاحقها. كانت جدران الغرف التي تحيط بها مليئة بالذكريات، تلك الذكريات التي تكرس الصمت في قلبها. صورها، صور عائلتها، تقف على الجدران كأنها تراقبها. كانت تشعر بأنها في غرفة شديدة الظلام رغم أن النوافذ مفتوحة وأن أشعة الشمس تتسلل إلى المكان، وكأن هذه الذكريات هي التي تمنع الضوء من الدخول.

لكن ذلك الرجل الذي قابلته في الأيام الماضية، والذي كان يُدعى "آدم"، لم يكن قد خرج من تفكيرها. كانت تلك الكلمات التي همس بها في أذنيها، الكلمات التي حملت الكثير من الغموض، تلتف حول عقلها كخيوطٍ غير مرئية. "الحقيقة لن تكون سهلة... يجب أن تكوني مستعدة لتدفع الثمن." كانت تلك الكلمات تتردد في ذهنها كلما حاولت الهروب من واقعها، وكلما حاولت أن تبتعد عن الأسئلة التي لم تجد لها إجابة. لكن ماذا كان يعني؟ "دفع الثمن"؟ وما الثمن الذي تتحدث عنه؟

ذات مساء، عندما كانت تتجول في الحديقة المحيطة بالدار، تذكرت لحظة عابرة قبل الحريق، لحظة غريبة لم تفهمها إلا الآن. كان والدها قد قال لها في يومٍ ما، وهو يجلس على الأريكة أمام المدفأة: "الحياة أحيانًا تمنحنا أشياء ثمينة، لكن ثمنها يكون أكبر مما نتصور." كانت كلمات قد بدت لها عابرة آنذاك، لكنها اليوم أخذت في عقلها أبعادًا أعمق. هل كانت تلك الكلمات بمثابة تحذير؟ هل كان والدها يعرف شيئًا عن الحريق، عن السر الذي كان يختبئ خلفه؟

عندما عادت إلى غرفتها، أغمضت عينيها للحظة، حاولت أن تسترجع الذكريات، أن تستدعي الصورة الكاملة للحياة التي كانت تعيشها مع عائلتها. لم يكن من الصعب تذكر ملامح وجه والدتها الحنونة، ابتسامة شقيقها أحمد الذي كان يعيش في عالمه الخاص، ضحكاتهم التي كانت تملأ أرجاء البيت. كان ذلك الماضي يبدو وكأنه حلم بعيد، وكأنها كانت تعيش في عالمين متوازيين: عالم قديم مليء بالحب، وآخر جديد مليء بالحيرة والضياع.

وفي تلك اللحظة، حين كانت تغرق في هذه الأفكار، سمعت طرقًا خفيفًا على الباب. انتبهت بسرعة، ثم قامت لتفتح الباب ببطء. أمامها، كان آدم يقف، وفي عينيه كان هناك شيء غريب، شيء يجذبها إليه كما لو كان جزءًا من اللغز الذي كانت تحاول أن تحله.

"إيمان"، قال بصوت هادئ. "أنتِ مستعدة؟"

أجابت بصوت غير ثابت: "مستعدة لما؟"

ابتسم آدم ابتسامة خفيفة، لكن تلك الابتسامة لم تكن تُطمئنها. كانت هناك قسوة في عينيه، شيء مظلم كان يختبئ وراء ابتسامته. "مستعدة لما سيحدث في المستقبل، مستعدة لأن تواجهي الحقيقة."

تسارعت نبضات قلبها، لكنها حاولت أن تظهر رباطة جأشها. كانت تعلم أن لا عودة من هذه اللحظة. إذا قررت أن تتابع، فلا مفر من مواجهة ما كان ينتظرها. كان قرارها قد اتخذته في قلبها، لكنها لم تكن تعرف إذا كانت ستستطيع أن تحتمل ما سيأتي.

"ماذا تعني بالحقيقة؟" سألته، وهي تدفع باب الغرفة لتترك له المجال للدخول.

أجابها وهو يدخل الغرفة: "الحقيقة هي السر الذي لم تعرفيه بعد. الحقيقة التي تُخفى وراء كل شيء. الحقيقة التي لا يجرؤ أحد على كشفها."

وقف أمام النافذة المطلة على الحديقة، وحين نظر إلى السماء المظلمة، أضاف بصوت خافت: "الحقيقة ليست مجرد كلمات. هي شيء حي، شيء ينبض في الأرض، في الهواء، في كل شيء حولك. إنها شيء يجب أن تتعلمي كيف تعيشين معه."

إيمان كانت تتأمل فيه بحيرة، لكنها لم تستطع أن تقول شيئًا. كانت تلك الكلمات ثقيلة جدًا على قلبها، وكأنها كُتبت بأحرف من نار. كانت هناك جدران داخل قلبها تنهار شيئًا فشيئًا، لكن قلبها كان يشدها إلى شيء أكبر، شيء لا تستطيع تجاهله.

أضاف آدم: "الحريق لم يكن حادثًا. كان مدبرًا، كان رسالتك. يجب أن تفهمي ذلك."

هزت رأسها في عدم تصديق. "هل تعني أن والديّ، وأحمد، جميعهم كانوا جزءًا من هذا؟"

"لا"، أجاب آدم بسرعة. "ولكنهم كانوا جزءًا من شيء أكبر. كانوا جزءًا من خطة تتجاوز حدود العقل. ولكي تفهمي ما حدث، يجب أن تقبلي الحقيقة، مهما كانت مؤلمة."

كان الصمت يملأ الغرفة الآن. كانت إيمان تستعيد أنفاسها بصعوبة، وكل كلمة من كلمات آدم كانت تُسحب منها، تُجبرها على مواجهة أعمق مخاوفها. بدأت تلمح خيوطًا من الحقيقة، لكنها كانت كالنار التي تلتهم كل شيء في طريقها.

"أنا لا أستطيع"، قالت أخيرًا، بصوت منخفض. "لا أستطيع أن أواجه هذا، لا أستطيع أن أصدق أن كل شيء كان كذبة."

أجاب آدم، وهو يلتفت ليواجهها: "في هذا العالم، إيمان، الحقيقة هي الكذبة التي تصدقينها. والحقيقة الوحيدة التي يجب أن تعرفيها هي أن ما حدث ليس نهاية القصة، بل هو مجرد بداية."

تلك الكلمات كانت بمثابة صاعقة في قلب إيمان، صاعقة جعلتها تشعر بأنها تقف على حافة هاوية لا ترى قاعها.

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon