في صباحٍ بارد، كان البخار يتصاعد من كوب الشاي الذي وضعته فريدة على الطاولة، وكانت نظراتها تحوم حول الغرفة كما لو كانت تبحث عن شيء مفقود. كانت تدرك أن هذا اليوم لن يكون كأي يوم عادي. في مكانٍ آخر من المنزل، كانت ياسمين تُجهز نفسها ببطء، تراقب انعكاس صورتها في المرآة بعينين تعكس خوفًا ممتزجًا بالعزم. كانت ملامحها مشدودة، كأنها تُحارب قلقًا لا يُطاق.
تقدمت ببطء نحو النافذة، تأمل الضوء الشاحب الذي تسلل بين ستائر الغرفة. كانت تشعر أن اللحظة القادمة هي اختبار لكل ما عانته في حياتها. وعندما خطت خارج غرفتها، كان الصمت يسيطر على أرجاء المنزل، لكنه لم يكن صمتًا عاديًا. كان صمتًا يشي بالترقب، بالقلق الذي يتنفسه كل من يسكن هذا المكان.
في بهو المنزل، تجمع أفراد العائلة ينتظرون. كل واحد منهم كان يحمل على وجهه مزيجًا من المشاعر، بين من يراقبونها بعيونٍ جامدة، ومن يخفون تعبيرات غير مفهومة. تقدم عمها الذي كان يُعدّ القائد الظاهر للعائلة، يتأملها بعيون لا تُظهر سوى الجدية. "حان الوقت، ياسمين"، قالها بصوتٍ جاف، وكأنها حُكمٌ نهائي.
توقفت ياسمين لثوانٍ، تشعر أن كل عيون العالم تتجه نحوها. كانت تلك اللحظة هي لحظة الحقيقة. لم ترد بكلمة، بل استدارت وأخذت نفسًا عميقًا. كانت تعلم أن ما ستقوله الآن سيحمل تأثيرات لا يمكن محوها.
"لن أخضع لهذا الزفاف"، نطقتها بجرأة لم تعتقد أنها تمتلكها من قبل. لم يكن مجرد قرار، بل كان تحديًا، ضد كل من سلبها حقها في اختيار مصيرها. في تلك اللحظة، خيم الصمت على المكان، كان أشبه بصفعةٍ لم يتوقعها أحد.
تقدم عمها بخطوات غاضبة، "ما الذي تقولينه؟! هل تجرؤين على معارضة العائلة؟". كانت نظراته تحمل تهديدًا واضحًا، لكنها لم تتراجع. "أنا لم أعد دميةً بين أيديكم. لن أتزوج بهذا الشكل"، قالتها بصوت ثابت، وإن كانت دقات قلبها توشك على أن تخترق صدرها.
بينما كانت العائلة في حالة صدمة، تقدمت فريدة نحو ياسمين ووقفت بجانبها. "لن تذهب بمفردها في هذا الطريق، فأنا معها"، قالتها بصوت مفعم بالقوة، لتؤكد أن الدعم الحقيقي ليس مجرد كلمات. في تلك اللحظة، بدأت الانقسامات تتشكل بوضوح في المنزل، بين من يرونها مجازفة خطيرة وبين من يتفهمون حاجتها للتغيير.
لم يكن رد فعل العائلة موحدًا. البعض انسحب بهدوء، بينما اشتد غضب البعض الآخر. كان الميراث وألعاب النفوذ تحكم حياتهم، ولم يكن لديهم استعداد للتخلي عن هذا النفوذ بسهولة. استدعى عمها اجتماعًا طارئًا، محاولًا أن يجبرها على إعادةالنظر، لكن ياسمين بقيت مصممة، فهذه المرة لن تتراجع.
في الأيام التالية، لم يكن طريقها مفروشًا بالورود. تلقت تهديدات من أفراد لم تتوقع منهم العداء، وعاشت لحظات من القلق والترقب. لكنها وجدت في فريدة دعمًا لا يتزعزع. كانت الخالة تحاول حمايتها بقدر استطاعتها، تُرشدها إلى كيفية مواجهة العاصفة التي تحيط بها.
لم تكتفِ العائلة بالتهديدات الكلامية، بل بدأت في فرض ضغوطات اقتصادية على ياسمين وفريدة، في محاولة لثنيها عن قرارها. لكن مع كل تحدٍ، كانت تقوى عزيمتها. في إحدى الليالي، جلس الاثنان معًا في غرفة صغيرة، يتقاسمان رغيف خبز وشايًا بسيطًا، وكأنهما يستمدان القوة من بعضهما البعض. "هل تندمين على قرارك؟" سألت فريدة وهي تنظر إلى ياسمين بعينين ملؤهما القلق.
"ربما، لكنه الطريق الوحيد الذي أشعر فيه بأني أمتلك حياتي"، أجابت ياسمين، وابتسامة خفيفة تتسلل إلى شفتيها.
بمرور الوقت، بدأ المجتمع من حولهما يُدرك حجم الصراع الذي تخوضه ياسمين. كانت قصة رفضها للزواج المفروض تُثير الجدل، وتجذب الانتباه. بعضهم كان يدعمها، يرى فيها مثالًا للشجاعة، بينما آخرون يعتبرونها خارجة عن تقاليدهم. ومع تزايد الضغوط، شعرت ياسمين أنها باتت رمزًا للصراع بينبين القديم والجديد.
في إحدى المرات، خلال اجتماع عائلي آخر، كان عليهم أن يواجهوا بعضهم البعض مجددًا. حاولوا بكل الطرق، بالإقناع، بالترهيب، وحتى بإثارة الشفقة، لكن ياسمين وقفت، صلبة كالصخر. "حياتي ملك لي، وليس لأي شخص آخر"، قالتها بقوة، وكان صدى كلماتها يهز أرجاء الغرفة.
لم يكن من السهل كسر القيود، لكنها استطاعت أن تُشعل ثورة بداخلها، وأن تجد في قلبها القوة التي طالما كانت تظن أنها فقدتها.
Comments