استفاقت ياسمين في صباح اليوم التالي، وعينها تراقب الضوء الخافت الذي يتسلل عبر الستائر الثقيلة. كان الصباح يبعث في قلبها شعورًا بالثقل، وكأن الحياة تجبرها على مواجهته مرة أخرى. كانت الغرفة تعج بالصمت الذي لا يُطاق، وكأن حتى الهواء الذي تتنفسه يحمل عبئًا ثقيلًا من الخوف والقلق. كان اليوم الذي طالما كانت تخشاه قد أتى، يومًا لم يكن مجرد ذكرى عابرة في تقويم حياتها، بل كان لحظة مفصلية، نقطة تحول لا مفر منها.
بينما كانت تنظر إلى الظلال التي ترقص على الجدران، شعرت بأنها عاشت حياتها كلها في انتظار هذه اللحظة، حتى وإن كانت تعلم أن هذه اللحظة قد تحمل معها المزيد من الألم والارتباك. كان الخوف يراودها في كل زاوية، يسرق منها اللحظات الهادئة ويحشرها في دوامة من الأفكار المتسارعة التي لا نهاية لها. هل ستكون قادرة على اتخاذ القرار الذي سيغير كل شيء؟ هل ستتمكن من مواجهة ما كان يبدو مستحيلاً؟
وبينما كانت تجلس على حافة سريرها، أفكارها مشتتة بين الماضي والحاضر، وتذكرت كلام خالتها فريدة التي قالت لها في تلك الليلة: "القرار في يديك، وأنت من سيتحكم بمستقبلك." كانت تلك الكلمات تحمل في طياتها مزيجًا من الأمل والقلق، وتوشك أن تكون تلك الشرارة التي تشعل النار في قلبها. كان لدى ياسمين القوة داخلها لتغيير كل شيء، لكن هل ستكون قادرة على اتخاذ تلك الخطوة الصعبة؟
حاولت أن تركز، أن تجد إجابة لتلك الأسئلة التي دارت في ذهنها طوال الأيام الماضية. كان الزفاف الذي يُفرض عليها يلوح في الأفق مثل شبح، يطاردها كلما حاولت الهروب منه. لكنها لم تكن تعرف كيف تواجهه، كيف ترفضه. لقد تعودت على الخضوع للأوامر، على أن تكون مجرد دمية في يد عائلتها التي تتحكم في مصيرها. لكن اليوم كان مختلفًا. كانت تعلم أن هذه اللحظة لن تتكرر، وأنها إذا لم تتحرك الآن، فسيظل قدرها رهينة لما يفرضه الآخرون.
أخذت نفسًا عميقًا، وحاولت أن تطرد هذا الشعور بالاختناق الذي كان يضغط على صدرها. جلست للحظات، كأنها تقرأ ملامح وجهها في المرآة، تبحث عن جواب في عيونها، في تلك النظرة الحائرة التي كانت تراقب نفسها. كانت تشعر أن الوقت قد حان لتتخذ قرارًا يعيد تشكيل حياتها بالكامل. لكن ماذا لو كان قرارها خاطئًا؟ ماذا لو أنها اختارت الطريق الذي سيجعلها تندم إلى الأبد؟
بينما كانت تفكر في هذه الأمور، دخلت خالتها فريدة إلى الغرفة، كما كانت تفعل دائمًا، بهدوء وبابتسامة تحمل طابعًا خاصًا من الحنان. جلست بالقرب منها، ووضعت يدها على كتفها، محاولة أن تهدئ من روعها. "صباح الخير، يا عزيزتي. كيف حالك اليوم؟" قالت فريدة بصوتها المريح، الذي اعتادت ياسمين أن تجد فيه السكينة وسط العواصف التي تعصف بقلبها.
لكن ياسمين لم تكن قادرة على الرد بالكلمات. كانت تشعر بأنها غارقة في بحر من التفكير، وبينما كانت عيونها تحدق في الفراغ، كان قلبها يهتز بكل المشاعر المتناقضة التي كانت تملأ روحها. ابتسمت بشكل ضعيف، محاولة أن تُظهر لها أنها بخير، رغم أن كل شيء كان في عكس ذلك. "أنا بخير، خالتي، لا داعي للقلق."
لكن فريدة كانت تعرف تمامًا أن ياسمين لا تشعر بالراحة، وأن كلماتها لم تكن سوى محاولة لإخفاء الألم الذي كانت تخفيه في أعماقها. كانت ترى ذلك في عيونها، تلك العيون التي كانت مليئة بالحيرة والدموع التي تتجمع خلف جفونها. أخذت نفسًا عميقًا، ثم تحدثت بهدوء: "أنا هنا من أجلك، يا حبيبتي. أنت لست وحدك في هذا. مهما كان القرار الذي ستتخذينه، أنا هنا، سندك."
لكن ياسمين، على الرغم من كلمات فريدة الطيبة، كانت لا تزال غارقة في شعور العجز. كانت تعلم أن القرار الذي ستتخذه سيحمل معه تبعات ثقيلة. هل يجب أن تُرضي عائلتها، حتى وإن كان ذلك يعني التضحية بسعادتها؟ أم يجب أن تختار الطريق الصعب، الذي قد يبعدها عن كل شيء تعرفه؟ كانت تدور في حلقة مفرغة من الأسئلة التي لا نهاية لها.
فجأة، جاء شعور غريب يختلج قلب ياسمين. شعور بأنها قد تكون على حافة شيء ما. ربما لم يكن لديها القدرة على الخروج من هذا المأزق بمفردها، لكن كان هناك شيء ما في داخلها يناديها بأن تأخذ زمام الأمور بين يديها. "أنا خائفة، خالتي. ماذا لو خسرت كل شيء؟ ماذا لو كان اختياري خاطئًا؟" همست ياسمين، وعيناها غارقتان في بحر من الشكوك.
فريدة، التي كانت دائمًا تحمل الحكمة في كلماتها، أمسكت بيد ياسمين بلطف، وقالت: "أعلم أنك خائفة، وأنا هنا لأقف بجانبك. لكن يجب أن تعلمي أن الحياة ليست مجرد اختيارات سهلة. أحيانًا، علينا أن نختار ما يريح قلبنا، حتى وإن كان ذلك يعني خوض معركة. ستكونين قوية بما يكفي لتجاوز كل شيء."
كانت كلمات فريدة تنبع من القلب، لكنها كانت أيضًا تلمس شيء عميق في قلب ياسمين. كانت تذكرها أن الحياة لا تتمحور حول البقاء في منطقة الأمان، بل في القدرة على مواجهة المجهول. كانت على وشك اتخاذ قرار يغير حياتها، لكنها كانت بحاجة إلى القوة الكافية لذلك.
بينما كانت الساعة تدق، كان الوقت يمر بسرعة، وكل لحظة كانت تقترب فيها من اتخاذ القرار الذي كانت تخشاه طوال حياتها. كانت تعلم أنها إذا لم تتحرك الآن، فقد تفوتها الفرصة الوحيدة لتغيير مصيرها. قررت أن تسير في طريق لم تختاره من قبل، طريق مليء بالأسئلة والتحديات. لكن على الأقل، سيكون ذلك طريقها هي.
وبينما تجهز نفسها للمواجهة القادمة، كان قلب ياسمين ينبض بالقوة التي لم تعرفها من قبل. كانت تعرف أن أمامها طريقًا طويلاً، لكن قلبها كان مليئًا بالأمل، وأن هذا الأمل قد يكون هو ما سيساعدها على الوقوف في وجه كل ما قد يأتي.
بينما كانت ياسمين تستعد للنزول لمواجهة أفراد العائلة، رأت في ملامحها المرتبكة في المرآة بريقًا خافتًا من العزيمة. تذكرت لحظات الطفولة عندما كانت تلعب في الحديقة وتضحك مع والدها قبل أن تتغير الأمور وتصبح حياتها مقيدة بالسلاسل. أدركت أن هذا البريق، رغم ضعفه، كان كل ما تحتاجه في هذه اللحظة. كان جزءًا صغيرًا من نفسها لم يُسحق بعد، ولم يتلاشى في ظلال الخوف.
خرجت من غرفتها بخطوات ثابتة، متوجهة نحو قاعة الاجتماعات العائلية حيث كان الجميع ينتظرها. شعرت بنظراتهم تتابعها وهي تدخل، وكأنهم يحكمون عليها مسبقًا. لكنّها لم تلتفت إليهم. كان قلبها ينبض بقوة، وصوت فريدة، الذي ظل يتردد في ذهنها، كان يمنحها القوة للاستمرار. تقدمت نحو المنصة المركزية، المكان الذي كان يُفترض أن تُعلن فيه قبولها للخضوع.
تحدثت بصوت منخفض، لكنه كان واضحًا بما يكفي لإسكات الهمسات في القاعة. "لقد عشت حياتي كلها أستمع لأوامركم وأفكاركم. اليوم، أنا هنا لأقول: لا." كانت كلماتها بسيطة، لكنها كانت تشبه صرخة في الظلام. كان وقعها كالسيف على آذان الحاضرين، لم يتوقعوا منها هذه الجرأة. البعض غضب، وآخرون حاولوا استيعاب صدمتهم، لكن أحدًا لم يستطع أن ينكر أن هناك شيء قد تغيّر.
وسط ذلك الصمت المطبق، تقدّم أحد أعمامها ليقف أمامها، ملامحه قاسية وصوته يحمل تهديدًا مكتومًا. "هل تعتقدين أن مجرد كلمة منك يمكن أن تغيّر مصيرك؟ نحن هنا لنحمي مصالح العائلة، وهذا يتطلب منك الالتزام بما يُطلب منك." كلمات عمه كانت كالجدران التي حاولت أن تسجنها فيها، لكنها لم تتراجع. "مصالح العائلة؟ وأين كانت مصلحتي أنا؟ منذ متى أصبح حياتي أداة في أيديكم؟"
أدركت ياسمين أنها تخاطر بكل شيء. ربما لن يكون لديها مستقبل هنا إذا تمردت، وربما ستُعاقب بشدة، لكن هذا كان قرارها، اختيارها. وبينما كانت تتحدث، شعرت بشيء جديد يتولد في داخلها. لم تعد ترى نفسها مجرد ضحية، بل أصبحت القائدة الوحيدة لمصيرها. حتى إن كان الطريق أمامها مليئًا بالصعاب، فهي مستعدة للقتال من أجل حريتها.
بعد ذلك، تقدّمت فريدة، التي كانت تُراقب المشهد بصمت، وقفت بجانب ياسمين لتؤكد أن الأخيرة ليست وحدها. "لن ندعكِ تواجهين هذا وحدك، ياسمين. إن كنتِ تريدين حريتك، فسوف نقاتل معًا." كانت كلماتها تحمل شحنة من الدعم والأمل، مما جعل قلب ياسمين يخفق بقوة. لم تكن وحدها، بل كانت محاطة بأشخاص يؤمنون بها، مهما كان الثمن الذي سيدفعونه جميعًا.
--
Comments