ظل النينجا
كانت السماء رمادية كأنها رماد حرب لم تُطفأ بعد، والريح تعوي في وادٍ موحشٍ نسيه الناس منذ زمن بعيد. في ذلك المكان، بين الجبال المتشققة والوديان الميتة، كان يسكن الصمت، لا يُسمع إلا صوت الريح وهي تضرب الصخور وكأنها تنذر بشيءٍ قادم.
وسط هذا الخراب، كانت قلعة متهالكة تمتد كوحش حجريٍّ عالقٍ في صدر الجبل. أبراجها مكسورة، جدرانها مشققة، وراياتها ممزقة تتراقص على أنغام الريح الباردة. هناك، في أعماقها السفلى، داخل زنزانة مظلمة لا يصلها ضوء النهار، كان يجلس رجل مكبّل بالسلاسل.
ذلك الرجل كان يُدعى كاغي.
جسده نحيل لكنه متماسك، عيناه غارقتان في ظلٍّ غامقٍ لا يخلو من بريقٍ خامد، بريقٍ يُشبه جمرة ما زالت تتنفس تحت الرماد. ملابسه ممزقة، والدم الجافّ يغطي ساعديه، وشعره الأسود الطويل يتدلّى على وجهه كظلٍّ منسي. لم يتكلم منذ أيام، بل منذ أسابيع، لكنه يسمع كل شيء: صدى خطوات الحراس، صرير الأبواب، وأنين الأسرى الآخرين الذين مات بعضهم ولم يُدفنوا بعد.
الزمن في تلك الزنزانة لم يكن يُقاس بالساعات أو الأيام، بل بالنبضات البطيئة لقلبٍ رفض أن يتوقف.
أغلق كاغي عينيه، فغمره ظلام أعمق من الجدران. في ذلك الظلام، عاد يسمع أصواتًا من الماضي — ضحكات بعيدة، صرخات، ثم انفجار نارٍ عظيمة أحرقت كل شيء. رأى وجوهًا بلا ملامح، سيوفًا تلمع في المطر، وصوتًا يناديه:
"اهرب، كاغي! النار لا ترحم من يقف في طريقها!"
فتح عينيه فجأة، ويده ترتجف. لم يكن يدري إن كان ذلك حلمًا أم ذكرى.
منذ زمن، كان كاغي محاربًا، أو ربما مجرد تلميذٍ في طريق المحاربين. لم يكن أحد يعلم من أين جاء، ولا إلى أي قبيلةٍ ينتمي. كل ما يُعرف عنه أنه كان يحمل سيفين صغيرين يشبهان شكل التنين، وأنه خاض معارك كثيرة دون أن يُهزم، حتى جاء اليوم الذي سقط فيه في كمينٍ أعدّه له رجال كاجيرو، سيد الظلال، الحاكم الحديدي لعالمٍ لم يبقَ فيه سوى الأقوياء.
الليلة كانت باردة، أكثر من أي ليلة مضت.
تسللت قطرات الماء من سقف الزنزانة، وسقطت على الأرض الحجرية في إيقاعٍ بطيءٍ يشبه نبضات قلبه.
"كم مرّ من الوقت؟"
سأل نفسه، لكن لا جواب.
في هذا المكان، لا أحد يجيب.
ثم، من بعيد، سمع صوت الحارس يضحك:
"ذلك السجين في الزنزانة السابعة ما زال حيًا؟ عجبًا! أظنه لا يعرف كيف يموت!"
ضحك الحارس الآخر وقال:
"دعه يتعفن، هذا مصيره. كاجيرو نفسه أمر بأن يبقى حبيس الظلام حتى ينسى اسمه!"
لكن كاغي لم ينسَ اسمه.
لم ينسَ من سرق حريته، من كسر سيفيه، من سحق كبرياءه أمام الجميع.
مدّ يده المقيدة نحو الجدار البارد، وكأنه يحاول أن يشعر بالحياة من خلال الحجارة.
وفي تلك اللحظة، حدث شيء غريب.
دفء خفيف سرى في أطراف أصابعه، ثم ازداد تدريجيًا حتى شعر بحرارةٍ حقيقية.
رفع عينيه بدهشة، فرأى وهجًا صغيرًا يتشكل بين كفيه — لهبًا ضعيفًا، لكنه واقعيّ، ينبض كالقلب.
لهيبٌ بلا مصدر، بلا فتيل.
حدّق فيه كاغي طويلاً، وارتسمت على وجهه ابتسامة باهتة.
كانت المرة الأولى التي يرى فيها النور منذ زمن بعيد.
لكن ما إن اشتعل اللهب حتى اهتزت الجدران قليلاً، وكأن القلعة نفسها تشعر به.
سمع الحراس من الأعلى صدى صوتٍ غامض، فسكتوا لحظة، ثم قال أحدهم:
"هل شعرتَ بذلك؟"
"ربما زلزال… لا تهتم. هذا المكان ينهار كل أسبوع!"
أما في الأسفل، فكان كاغي يحدق في لهبه الصغير، يهمس لنفسه بصوتٍ خافتٍ كأنما يخاطب شيئًا أكبر منه:
"أخيرًا… بعد كل هذا الظلام، أنتِ تعودين إليّ."
لم يكن يدري أن ما اشتعل في تلك الليلة لم يكن مجرد نارٍ عادية، بل الشرارة الأولى لقوةٍ نادرةٍ ضاعت منذ أجيال — قوة النار النقية، طاقةٌ خالصةٌ لا يملكها إلا من نجا من الموت أكثر من مرة.
مرّت لحظات، ثم اختفى اللهب، وكأن شيئًا في داخله تراجع، خائفًا من نفسه.
لكن قلب كاغي لم يهدأ.
لقد شعر بشيءٍ يشتعل في أعماقه، شيءٍ يقول له:
"الوقت لم ينتهِ بعد."
في اليوم التالي، جاء الحارس كعادته يحمل طعامًا بارداً، ورماه في الزاوية دون أن ينظر إليه.
لكن هذه المرة، حين اقترب، شعر بشيءٍ مختلف في الجو. حرارةٌ خفيفةٌ لم تكن موجودة من قبل.
تراجع بخطوة، نظر إلى كاغي، فرآه جالسًا في الظل، رأسه مرفوع، وابتسامة صغيرة تلمع تحت شعره الأسود.
"ما بك؟" قال الحارس بسخرية.
"أخشى أن تكون فقدت عقلك."
لم يجب كاغي، فقط نظر إليه بصمت.
عينيه كانتا هادئتين… لكن في عمقهما وميض نارٍ لا يمكن تجاهله.
أغلق الحارس الباب بسرعة، وهو يتمتم:
"عيناه… لم تكن هكذا من قبل."
ومع اختفاء الصوت، عاد الصمت يملأ المكان.
كاغي بقي جالسًا، يحدق في الجدار، ثم همس:
"إن كان العالم قد نسيني… فسأجعله يتذكرني بالنار."
تسللت أشعة خفيفة من ضوء القمر من فتحةٍ صغيرةٍ في السقف، وسقطت على وجهه.
ولأول مرة منذ سنوات، بدا كاغي كإنسانٍ حيّ، لا كظلٍّ ينتظر الموت.
ذلك اللهب الصغير الذي اشتعل في زنزانته،
سيُشعل بعد حينٍ حربًا تُغيّر وجه العالم.
Comments
Tablaite Wagage
رائع
2025-10-22
1