NovelToon NovelToon

ظل النينجا

الفصل الأول : تحت رماد الليل

كانت السماء رمادية كأنها رماد حرب لم تُطفأ بعد، والريح تعوي في وادٍ موحشٍ نسيه الناس منذ زمن بعيد. في ذلك المكان، بين الجبال المتشققة والوديان الميتة، كان يسكن الصمت، لا يُسمع إلا صوت الريح وهي تضرب الصخور وكأنها تنذر بشيءٍ قادم.

وسط هذا الخراب، كانت قلعة متهالكة تمتد كوحش حجريٍّ عالقٍ في صدر الجبل. أبراجها مكسورة، جدرانها مشققة، وراياتها ممزقة تتراقص على أنغام الريح الباردة. هناك، في أعماقها السفلى، داخل زنزانة مظلمة لا يصلها ضوء النهار، كان يجلس رجل مكبّل بالسلاسل.

ذلك الرجل كان يُدعى كاغي.

جسده نحيل لكنه متماسك، عيناه غارقتان في ظلٍّ غامقٍ لا يخلو من بريقٍ خامد، بريقٍ يُشبه جمرة ما زالت تتنفس تحت الرماد. ملابسه ممزقة، والدم الجافّ يغطي ساعديه، وشعره الأسود الطويل يتدلّى على وجهه كظلٍّ منسي. لم يتكلم منذ أيام، بل منذ أسابيع، لكنه يسمع كل شيء: صدى خطوات الحراس، صرير الأبواب، وأنين الأسرى الآخرين الذين مات بعضهم ولم يُدفنوا بعد.

الزمن في تلك الزنزانة لم يكن يُقاس بالساعات أو الأيام، بل بالنبضات البطيئة لقلبٍ رفض أن يتوقف.

أغلق كاغي عينيه، فغمره ظلام أعمق من الجدران. في ذلك الظلام، عاد يسمع أصواتًا من الماضي — ضحكات بعيدة، صرخات، ثم انفجار نارٍ عظيمة أحرقت كل شيء. رأى وجوهًا بلا ملامح، سيوفًا تلمع في المطر، وصوتًا يناديه:

"اهرب، كاغي! النار لا ترحم من يقف في طريقها!"

فتح عينيه فجأة، ويده ترتجف. لم يكن يدري إن كان ذلك حلمًا أم ذكرى.

منذ زمن، كان كاغي محاربًا، أو ربما مجرد تلميذٍ في طريق المحاربين. لم يكن أحد يعلم من أين جاء، ولا إلى أي قبيلةٍ ينتمي. كل ما يُعرف عنه أنه كان يحمل سيفين صغيرين يشبهان شكل التنين، وأنه خاض معارك كثيرة دون أن يُهزم، حتى جاء اليوم الذي سقط فيه في كمينٍ أعدّه له رجال كاجيرو، سيد الظلال، الحاكم الحديدي لعالمٍ لم يبقَ فيه سوى الأقوياء.

الليلة كانت باردة، أكثر من أي ليلة مضت.

تسللت قطرات الماء من سقف الزنزانة، وسقطت على الأرض الحجرية في إيقاعٍ بطيءٍ يشبه نبضات قلبه.

"كم مرّ من الوقت؟"

سأل نفسه، لكن لا جواب.

في هذا المكان، لا أحد يجيب.

ثم، من بعيد، سمع صوت الحارس يضحك:

"ذلك السجين في الزنزانة السابعة ما زال حيًا؟ عجبًا! أظنه لا يعرف كيف يموت!"

ضحك الحارس الآخر وقال:

"دعه يتعفن، هذا مصيره. كاجيرو نفسه أمر بأن يبقى حبيس الظلام حتى ينسى اسمه!"

لكن كاغي لم ينسَ اسمه.

لم ينسَ من سرق حريته، من كسر سيفيه، من سحق كبرياءه أمام الجميع.

مدّ يده المقيدة نحو الجدار البارد، وكأنه يحاول أن يشعر بالحياة من خلال الحجارة.

وفي تلك اللحظة، حدث شيء غريب.

دفء خفيف سرى في أطراف أصابعه، ثم ازداد تدريجيًا حتى شعر بحرارةٍ حقيقية.

رفع عينيه بدهشة، فرأى وهجًا صغيرًا يتشكل بين كفيه — لهبًا ضعيفًا، لكنه واقعيّ، ينبض كالقلب.

لهيبٌ بلا مصدر، بلا فتيل.

حدّق فيه كاغي طويلاً، وارتسمت على وجهه ابتسامة باهتة.

كانت المرة الأولى التي يرى فيها النور منذ زمن بعيد.

لكن ما إن اشتعل اللهب حتى اهتزت الجدران قليلاً، وكأن القلعة نفسها تشعر به.

سمع الحراس من الأعلى صدى صوتٍ غامض، فسكتوا لحظة، ثم قال أحدهم:

"هل شعرتَ بذلك؟"

"ربما زلزال… لا تهتم. هذا المكان ينهار كل أسبوع!"

أما في الأسفل، فكان كاغي يحدق في لهبه الصغير، يهمس لنفسه بصوتٍ خافتٍ كأنما يخاطب شيئًا أكبر منه:

"أخيرًا… بعد كل هذا الظلام، أنتِ تعودين إليّ."

لم يكن يدري أن ما اشتعل في تلك الليلة لم يكن مجرد نارٍ عادية، بل الشرارة الأولى لقوةٍ نادرةٍ ضاعت منذ أجيال — قوة النار النقية، طاقةٌ خالصةٌ لا يملكها إلا من نجا من الموت أكثر من مرة.

مرّت لحظات، ثم اختفى اللهب، وكأن شيئًا في داخله تراجع، خائفًا من نفسه.

لكن قلب كاغي لم يهدأ.

لقد شعر بشيءٍ يشتعل في أعماقه، شيءٍ يقول له:

"الوقت لم ينتهِ بعد."

في اليوم التالي، جاء الحارس كعادته يحمل طعامًا بارداً، ورماه في الزاوية دون أن ينظر إليه.

لكن هذه المرة، حين اقترب، شعر بشيءٍ مختلف في الجو. حرارةٌ خفيفةٌ لم تكن موجودة من قبل.

تراجع بخطوة، نظر إلى كاغي، فرآه جالسًا في الظل، رأسه مرفوع، وابتسامة صغيرة تلمع تحت شعره الأسود.

"ما بك؟" قال الحارس بسخرية.

"أخشى أن تكون فقدت عقلك."

لم يجب كاغي، فقط نظر إليه بصمت.

عينيه كانتا هادئتين… لكن في عمقهما وميض نارٍ لا يمكن تجاهله.

أغلق الحارس الباب بسرعة، وهو يتمتم:

"عيناه… لم تكن هكذا من قبل."

ومع اختفاء الصوت، عاد الصمت يملأ المكان.

كاغي بقي جالسًا، يحدق في الجدار، ثم همس:

"إن كان العالم قد نسيني… فسأجعله يتذكرني بالنار."

تسللت أشعة خفيفة من ضوء القمر من فتحةٍ صغيرةٍ في السقف، وسقطت على وجهه.

ولأول مرة منذ سنوات، بدا كاغي كإنسانٍ حيّ، لا كظلٍّ ينتظر الموت.

ذلك اللهب الصغير الذي اشتعل في زنزانته،

سيُشعل بعد حينٍ حربًا تُغيّر وجه العالم.

الفصل الثاني : طريق النار

خرج كاغي من بين أنقاض القلعة بينما الدخان ما زال يتصاعد من أبراجها المهدمة، كان الليل كثيفًا كبحرٍ من الحبر، والريح تعصف بعباءته السوداء وهي ترفرف كجناح مكسور، خطواته بطيئة لكنها ثابتة، كل صوت لحذائه فوق الصخور يدوّي في الصمت كإعلان ميلاد جديد، كانت القيود ما زالت على معصميه لكنها تفتت من شدة الحرارة التي انفجرت حين هرب، كان يشعر بأن النار التي اشتعلت بداخله في الزنزانة ما زالت ترافقه، لا تُرى، لكنها تنبض تحت جلده، تشتعل حين يغضب، وتهدأ حين يغمض عينيه.

أوقفته الريح فوق قمةٍ صغيرة، نظر إلى السماء، لم يرَ نجومًا، بل غيوماً سوداء تبرق فيها شرارات بعيدة كأن السماء نفسها تغلي، رفع رأسه وقال بصوتٍ خافتٍ كالوعد: لن أموت قبل أن أُعيد ما سُرق مني.

تحرّك في الظلام، جسده يتناغم مع الصخور، كل عضلةٍ تتحرك بخفة من اعتاد على القتال في العتمة، لم يعد أسيرًا بل ظلًا يتحرك بين أنفاس الجبل، وفي أعماق الليل بدأ يسمع صوت صفيرٍ خافتٍ، ثم همسًا، ثم وقع أقدامٍ سريعة تقترب منه.

توقف كاغي، وضع يده على مقبض أحد سيفيه، لم يكن يحمل سيوفًا حقيقية بعد، فقط قبضتان مكسورتان نجا بهما من السجن، لكنهما كانتا كافيتين ليذكّراه بما كان، خرج من بين الظلال ثلاثة رجال، ملابسهم سوداء، عيونهم مضيئة كحجرٍ تحت القمر، صيادو الظلال، أتباع كاجيرو، أولئك الذين لا يفشلون إلا مرة واحدة، لأنها الأخيرة.

قال أحدهم بصوتٍ حادّ: "كاغي... لم أتخيل أنك ستخرج حيًا من سجن كاجيرو."

ابتسم كاغي ابتسامة باهتة وقال: "ربما لم تتخيل لأنك لا تعرف النار."

ضحك الرجل وقال: "النار؟ ظننتها انطفأت حين سقطت قبيلتك."

تقدّم خطوة، سيفه الرفيع يلمع بالضوء الخافت، لكن عيون كاغي لم تتحرك عنه، بل كانت تراقب الريح، وتنتظر اللحظة التي تصمت فيها الجبال، لأنه حين يصمت الجبل... يولد الصدى.

تحرك كاغي بسرعة لا تُرى، صرخة قصيرة ملأت المكان، ووميض نارٍ انبثق من العدم، انقسم الظلام إلى شطرين، ثم عاد ليلتحم من جديد، عندما هدأ كل شيء كان أحد الرجال ملقىً على الأرض، سيفه مقسوم إلى نصفين، والهواء من حوله يلمع بحرارة خفيفة، أما كاغي فوقف دون أن يتحرك، عينيه تلمعان كجمرتين بين دخانٍ خفيفٍ يخرج من يده.

قال الرجل الثاني مذهولًا: "هذه ليست نارًا عادية..."

رد كاغي بهدوء: "إنها نار الظل... آخر ما تبقّى من ناري الحقيقية."

هاجمه الثاني والثالث معًا، سيوفهم تتقاطع كالبرق، وكاغي يتحرك بينهم بخفةٍ تشبه الرقص، يصدّ الضربات، يدور حولهم، كل حركةٍ تصنع أثرًا من الضوء الأحمر في الظلام، كأن الخطوط التي يرسمها بسيفه تحرق الهواء نفسه، قفز أحدهم خلفه، لكنه وجد نفسه يواجه شرارةً انفجرت من كفّ كاغي، حرارةً صامتة لكنها كافية لتحرق القماش والحديد في لحظة، سقط على ركبتيه وهو يصرخ، والنار تتراقص على ذراعه.

أما الثالث فتراجع بخطوتين، ثم رمى خنجرًا مغطى بالسمّ، لكن كاغي لم يتحرك، فقط رفع يده، وعندها ذاب الخنجر في الهواء قبل أن يصل إليه، كأنه اصطدم بجدارٍ غير مرئي من الحرارة الخالصة، عندها قال الرجل بخوف: "أنت لست إنسانًا بعد الآن..."

اقترب كاغي بخطواتٍ هادئة، نظر إليه بعينٍ خاليةٍ من الرحمة وقال: "كنت إنسانًا، حتى أحرقتم قلبي."

ثم مد يده وأمسك وجه الرجل، اشتعلت النار فجأة، ولكن دون لهبٍ ظاهر، فقط ضوء أحمر ووميض، وعندما اختفى كل شيء، كان المكان ساكنًا إلا من صوت الريح.

وقف كاغي هناك للحظة، ينظر إلى يده الملطخة بالرماد، ثم إلى الأفق البعيد حيث تنحدر الجبال نحو وادٍ ضبابي، كان يشعر بأن شيئًا بداخله يتغير، النار لم تعد طاقة فقط، بل روحًا تهمس في أعماقه.

همس في داخله صوت قديم، صوتٌ كان يسمعه في طفولته حين كان يتدرب على السيطرة على النار:

"النار لا تُعطى، بل تُستدعى. من يملكها دون أن يفهمها... تحرقه."

توقف كاغي قليلًا، أغلق عينيه، شعر بالحرارة تتنفس تحت جلده، لم تكن تؤلمه، بل كانت تدعوه، تُطالبه بأن يترك الخوف، بأن يتذكّر من هو، فابتسم وقال في نفسه: "ربما لم أعد أخاف."

تابع سيره عبر الجبل، والريح تزداد، والضباب يتكاثف، كانت وجهته غير معروفة، لكنه شعر أن طريقه يقوده نحو الشرق، نحو أرضٍ يقال إنها تحكمها النيران نفسها التي حاول العالم نسيانها، وهناك، خلف الغيوم، كان البرق يلمع كأنه يرسم الطريق أمامه.

تحت قدميه، انطفأت آخر شرارة من معركته، ولكن في صدره اشتعلت حرب جديدة — حرب العودة، لا إلى الانتقام فقط، بل إلى الحقيقة.

لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon

تحميل PDF للرواية
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon