الفصل الثاني: خطوات في الظل
بعد أن تركت كاثرين منزلها وراءها، شعرت بأن المدينة تبدو مختلفة اليوم، كما لو أن كل زاوية وكل شارع يخبئ سرًا لم تكتشفه بعد. الرياح التي كانت تحرك أوراق الأشجار كانت تحمل معها لمحة من العطر القديم، العطر الذي بدأ يبدو لها وكأنه دليل على الطريق، إشارة غامضة من الماضي.
كانت تمشي ببطء، محاولة أن تستوعب كل ما حدث في الليلة السابقة: الرسالة، المكالمة الغامضة، والزجاجة الصغيرة التي أصبحت جزءًا من حياتها. كل شيء بدا وكأنه يتحد في شبكة دقيقة من الأسرار تنتظر أن تُكشف. قلبها كان ينبض بسرعة، لكنها شعرت أيضًا بقوة غريبة تدفعها للمضي قدمًا.
بينما كانت تسير، لاحظت مبنى قديم في شارع جانبي لم تنتبه له من قبل. واجهته الكبيرة والجدران المتشققة أعطتها شعورًا بالرهبة، لكنه كان أيضًا جذابًا بطريقة غريبة. توقفت أمام الباب، وأخذت تلمس الخشب القديم بيدها، وكأنها تحاول أن تتواصل مع شيء ما وراء الزمن. رائحة العطر شعرت بأنها أقوى هنا، وكأن المكان نفسه يختلط بالماضي.
دفعتها فضولها إلى دفع الباب ببطء. صريره العالي أضاف توترًا خفيفًا للجو. الداخل كان مظلمًا، لكن أشعة الشمس التي تسللت من النوافذ المكسورة أظهرت صورًا وأشياء قديمة: رفوف مليئة بالكتب المغبرة، أوراق متناثرة على الأرض، ومرايا مكسورة تعكس ضوء النهار بطريقة مشوهة.
خطت كاثرين خطوة داخل المبنى، والزجاجة في يدها. كل حركة كانت محسوبة، وكل صوت صغير جعل قلبها يقفز. شعرت بأنها ليست وحدها، كأن شيئًا أو شخصًا يراقبها من الظلال. لكن لم يكن هناك أي شخص، فقط صدى خطواتها وأصوات المدينة البعيدة التي تصل إلى الداخل بطريقة خافتة.
جلست على أحد المقاعد القديمة، ووضعت الزجاجة أمامها. أخرجت الرسالة مرة أخرى وقرأت الكلمات المكتوبة بخط رزين:
"لتكتشفي ما فقدته، عليك أن تتبعي الرائحة، فهي تحمل مفتاح قلبك."
رغم أنها قرأت الرسالة عدة مرات، لم تتمكن من فهم معناها بالكامل. شعرت بأن هناك شيئًا مهمًا يفلت من بين أصابعها، شيئًا يجب أن تجده قبل أن يفوتها. وبينما كانت تتفكر، بدأت تتذكر أحاديث جدتها القديمة عن أسرار العائلة، وعن أشياء لم تتحدث عنها مطلقًا.
فجأة، شعرت بنسمة باردة تجتاح المبنى. التفتت، ولمحت خيالًا يتحرك بسرعة بين الركام. ارتجفت، لكنها شعرت أيضًا بشجاعة غريبة تتدفق داخلها. تبعت الخيال، خطوة بخطوة، عبر الممرات الضيقة. كل زاوية كانت تكشف لها جزءًا جديدًا من المبنى، وكل ركن يثير شعورًا مختلطًا بين الفضول والخوف.
في إحدى الغرف، وجدت صندوقًا خشبيًا صغيرًا، مغطى بالغبار. فتحت الغطاء ببطء، ووجدت داخله أوراقًا وصورًا قديمة، وأشياء صغيرة تحمل علامات مألوفة لها. بين الصور، كان هناك شخص يبدو مألوفًا جدًا، شاب ذو عينين عميقتين يذكّرها بشخص تعرفه منذ الطفولة، لكنه لا تتذكر كل التفاصيل عنه.
بينما كانت تتفحص الصور، شعرت بأن العطر في الزجاجة يزداد قوة، وكأنه يهمس لها بأشياء لم تُقال بعد. بدأت تدرك أن هذه الرائحة ليست مجرد عبق، بل مفتاح لذكريات وأسرار مخفية، وأن كل خطوة تقوم بها ستقودها إلى معرفة شيء أكبر عن نفسها وعن الماضي الذي حاولت نسيانه.
قررت أن تأخذ الصندوق معها، ربما يساعدها في كشف اللغز. عند خروجها من المبنى، شعرت بأن الظلال تحيط بها بطريقة غير طبيعية، وكأن المبنى يودعها ويطالبها بالعودة. لكنها لم تتردد، المزيج بين الحماس والخوف كان يدفعها للمضي قدمًا.
على الطريق، تذكرت كلمات جدتها: "هناك أشياء يجب أن يعرفها القلب قبل العقل. وعطر الماضي يحمل الإجابة أحيانًا قبل أن يفهمها أحد." ابتسمت كاثرين لنفسها، وأدركت أن هذه الرحلة لن تكون سهلة، وأن ما بدأ كمغامرة صغيرة قد يتحول إلى اكتشافات تغير حياتها كلها.
ومع كل خطوة، بدأت ترى صورًا للأماكن التي لم تزرها منذ سنوات، والأشخاص الذين كانوا جزءًا من حياتها ثم اختفوا. شعرت وكأن الزمان يلتف حولها، وأن كل شيء أصبح مترابطًا بطريقة غريبة.
قبل أن تصل إلى نهاية الشارع، لاحظت وجود دفتر صغير موضوع على مقعد خشبي، يبدو وكأنه وُضع هناك لها مباشرة. فتحت الدفتر، ووجدت ملاحظات مكتوبة بخط رزين، ورسائل قصيرة تحمل علامات مألوفة. كانت كلها تتحدث عن شيء غامض، عن شخص ما يبحث عن الحقيقة وعن رحلة طويلة بدأت منذ زمن بعيد.
كاثرين شعرت بأن قلبها يخفق بقوة. كل شيء بدأ يتجمع أمامها، العطر، الرسالة، الصور، الملاحظات… كلهم يشكلون خريطة غامضة نحو شيء أكبر، شيء يجب أن تكتشفه قبل أن يفوتها. شعرت بأنها على مفترق طرق حقيقي، وأن قرارها القادم سيحدد كل ما سيحدث في الأيام القادمة.
11تم تحديث
Comments