بدأ صوتي يستقر ، وكأنني وجدت ملجأ في كلماتي ، تابعت بثقة أكبر وعيناي أصبحتا تركزان في الفراغ لا عليه
" يهدف هذا النظام إلى حمايه الطلاب من الوقوع في العزلة أو الانهيار النفسي ، من خلال تنبيه الطاقم التدريسي في الوقت المناسب قبل أن يتأخر الوقت "
رفعت رأسي ببطء كنت مترددة و مشتتة ، لكنني رغبت في أن أراه أن أكتشف من ملامحه شيئا او جوابا
حين التقت عيناي بعينيه السوداوي شعرت و كأنهما تبحثان بي ، تغوصان في أعماقي لكنهما لم تتركا وجهي حتى حيث حاولت الهرب بنظراتي
"حين تتحدثين إلي ، لا تحاولي أن تبعدي أو أن تنزلي تلك العينان البدقيتان عني ، هل فهمتي أيتها الصغيرة " بنبرة أمر
دخلت في صدمت لثواني من كلامه ، حتى أبتعد فجأة خطوة خطوتين ... ثم استدار واتجه إلى مكتبه
جلس على الكرسي وفتح حاسبه المحمول ، بدأ يتصفح الملفات التي أرسلتها تحتوي على الكودات الخاصة و الأولية لهذا المشروع ، أصابعه تتحرك بخفه فوق لوحه المفاتيح
ثم توقف ... رمقني من طرف عينه ثم قال بصوت منخفض عميق هادئة لكنها غريبة ، نغمتها لا تشبه أي سؤال أكاديمي تخفي شيئا أخر خلفها
" لم هذا المشروع بالذات ؟
سؤال صعب علي ... لم أختره فقط لأنه فكرة مبتكرة ، بل لأنني أردت إنقاذ تلك الفتاة الصغيرة داخلي ، التي كانت تختبئ تحت غطائها كل ليله تتمنى فقط أن يقرأ أحد صمتها ، ان يفهمها دون أن تنطق خوفا من والداي ، لكن لم يقرأ أحد ولم يفهم أحد ، لذلك أخترت أن أكون الصوت ولو متأخرا لمعرفة صوتي وصوت كل من لم يسمع يوم
تنهدت بثقل ثم قلت
"لأن هناك طلابا كثيرون يعيشون خلف جدران لا ترى
طلاب يأتون كل صباح يحملون حقائبهم ووجوههم عادية ، لكن لا أحد يعلم ما الذي يحملونه داخلهم من مشاعر الخوف
أنا أردت فقط أن أخلق مساحة ، وأن يشعر أي شخص منهم أن هناك من يفهمهم ولو كانت عبارة عن فكرة بسيطة "
أكملت بابتسامه مرحة
" ليس الجميع قادرا على الحديث من ألمه ، لكن التكنولوجيا أحيانا تسمع ، حتى حين يصمت البشر "
رغم نظراته الحادة لكن أحسست بطيف لطيف يمر عندما رفع تلك الخصلات المتمردة و هو يقول
" الفكرة تستحق ... لكني لا أقبل بنصف جهد أو مشروع يبني على الشفقة فقط ، أريد تطورا واضحا لا يشبه مشاريع البقية "
تسمرت في مكاني لثوان ، أتنفس بصعوبة لكن بنشوة انتصار خافتة
هل قالها حقا ؟ هل منحني الفرصة ؟
أومأت له برأس خفيف و هممت بعدها بالمغادرة ، خرجت من المكتب لأجد لينيا تقف في الممر، لكن لوكاس لم يكن موجودا
ما إن رأتني حتى ركضت ناحيتي و همست و هي تلوح بيدها قبل أن تتكلم سألت بفضول
" أين لوكاس "
" ذهب ليجيب على أتصال ما ...فلتنسي لوكاس الآن ، هل وافق ذلك الفقمة ؟ قولي أنه وافق ! أشك أنك صفعتيه بعبقريتك "
ضحكت بخفة ، ثم نظرت لها بنظرة مليئة بلأمل و الامتنان
" لقد وافق "
سمعنا صوت لوكاس ، و هو يقول بابتسامة جانبية و يقترب بخطواته المتعجرفة
" هل أزعجكما يا آنستين "
نظرت له لينيا ورفعت حاجبها“"يعتمد… إن كنت ستساعد، فمرحبًا بك. أما إن جئت لتراقب عبقريتنا بصمت، فلا ".
ضحك بخفة، ثم وجّه نظراته نحوي
سمعت أنك لقد أقنعتي الأستاذ رويل… هذا وحده يُعد إنجازًا يفوق التخرج نفسه"
ابتسمتُ بتواضع وقلت
"لدينا فرصة وسنستغلها"
اقترب أكثر، وفتح دفتره وقال:
"إذن، هيا نُبهره معًا"
استيقظت في اليوم التالي على صوت خافت لشعاع الشمس الذي تسلل من خلف الستارة. ارتديت بلوزة خفيفة باللون الأبيض، ناعمة على بشرتي، وزيّنتها ببنطال بني بسيط لكنه أنيق. تركت شعري منسدلاً كما هو، لكنني أمسكت جزءاً منه ببكلة صغيرة على شكل فراشة ذهبية بسيطة، لكنها كانت كافية لتعطيني شعوراً بالراحة.
ذهبت إلى الجامعة بخطى هادئة. أنهيت بعض المحاضرة ، ولأن لينيا لم تكن تملك أي محاضرات صباحية، وجدت نفسي وحدي. لم أكن أمانع، ففي بعض الأحيان، أحتاج لهذا الهدوء. جلست في إحدى القاعات الفارغة، وضعت حقيبتي جانبًا، وأسندت رأسي إلى المقعد خلفي. كنت أستعد نفسيًا قبل أن أذهب إلى العمل، فقط دقائق بسيطة أملكها، بين الجامعة ودوامي… لكنها ثمينة
بينما كنتُ جالسة في تلك القاعة الفارغة، أتأمل الهدوء حولي وأحاول تنظيم أفكاري، اجتاحتني فجأة تلك الرائحة الرجولية المألوفة… رائحة دافئة، مسكرة، فيها شيء من الفخامة والعمق… كأنها تحتضن روحي بهدوء، وتربكني في اللحظة ذاتها.
تسمرت مكاني دون أن أدرك، كأنّ الهواء نفسه توقف عن الدوران. رفعت رأسي ببطء، وعيناي تفتحتا بتوتر خافت. سمعت صوت خطوات ثابتة، واثقة، تتقدم نحوي بثقل محسوب… وما إن التقت عيناي بعينيه حتى أدركت… كان هو
"هل اعتدتِ على الجلوس بمفردك؟ أم أنكِ تنتظرين شيئًا؟"
ارتبكتُ قليلاً، لكنني حاولت الحفاظ على رباطة جأشي، فهززت رأسي نافية، وأجبت بخفوت
"فقط كنت أحتاج لبعض الهدوء قبل أن أذهب إلى عملي"
قبل أن يمد يده بالملف، وقف لحظة صامتًا، وعيناه السوداوان مثبتتان على وجهي كأنهما تبحثان عن شيء خفي خلف ملامحي. لم يكن يتحدث، فقط يحدق بصمتٍ أربكني. شعرتُ بأنفاسي تضيق، وكأن الهواء من حولي بات ثقيلاً
ثم… رفع يده ببطء، وتقدم خطوةً إضافية جعلته أقرب من اللازم. حدقت إليه بدهشة، وتساءلت في داخلي عن سبب هذا القرب المفاجئ. رفع خصلة من شعري التي سقطت على وجهي بفعل النسيم، وأعادها خلف أذني بخفة. لمست أصابعه خدي للحظة، فتجمد الزمن
همس بصوت دافئ منخفض، فيه نبرة غريبة لم أسمعها منه من قبل
"هذا الهدوء لا يليق بعينيك… من المفترض أن تلمع أكثر"
اتسعت عيناي، ولم أتمكن من قول شيء. كنت مأخوذة .... لا بكلماته فحسب، بل بتلك النظرة التي امتزجت فيها البرودة المعتادة بشيء آخر… شيء دافئ، رقيق، يشبه الود الخجول
ثم تراجع خطوة، وكأنّه عاد إلى واقعه، ومد يده بالملف بهدوء وهو يقول
"ستجدين ملاحظاتي هنا"
أخذت الملف منه بيدين مرتجفتين قليلًا، لكن لم يكن الملف ما أثقل كفيّ، بل تلك اللمسة العابرة، تلك النظرة الهادئة المربكة، وذلك الهمس الذي علق في أذني كأنه لُحن لا يغادرني
كنت أسمع صوتي الداخلي يهمس: ما هذا؟ ما الذي حدث للتو؟
خرجت من القاعة، وقلبي يخفق بعنف غير مبرر. شعرتُ أن الهواء في الخارج لا يشبه هواء الداخل… أو ربما أنا من تغير .
سرت نحو المقهى، أتهيأ لبدء دوامي، لكنني كنت شاردة ، حتى لينيا عندما أرسلت لي رسالة تسأل إن كنت قد وصلت، احتجت دقائق لأرد
بعدما أنتهيت جلست في المكتبة و أمسكت بالملف لأفتحه ، قبل أن أفتح الملف، سمعت صوتًا غريبًا… خافتًا لكنه واضح، كأن أحدهم يناديني من مكان بعيد ... التفتُّ بخفة، نظري سقط على كتاب قديم موضوع بإهمال فوق الرف، كان غلافه الجلدي المتشقق يضم بين دفّتيه عنوانًا باهتًا
"أسرار الحرب الخفية"
تجاهلته أولاً، بل أجبرتُ عينيّ على الابتعاد، لكن ذلك الصوت في داخلي… لم يصمت
"افتحيه"
لم يكن صراخًا، بل همسًا… كأنه يخرج من أعماقي لا من حولي
ترددت، يدي اقتربت ببطء، تلامس الغبار الذي يغطي الغلاف، كأنني على وشك أن أفتح شيئًا لا يجب لمسه
مددت يدي بخفة نحو ذلك الكتاب الغامض، وكأنني أستجيب لنداء غير مرئي. لم أكن أعرف لماذا، لكن قلبي كان ينبض كأنني على وشك اكتشاف سر مدفون. رفعت الغلاف القديم، فتطاير بعض الغبار، وظهر من بين الصفحات ورقٌ أصفر باهت… بدا أنه ليس مجرد كتاب تاريخي عادي
صفحات أولى تحوي مخططات ورسومات لأسلحة قديمة، خرائط لمدن جامعية وأروقة سرية… لكن ما أوقفني لم يكن ذلك
كان هناك ورقة مفردة، طُويت بعناية، وعليها ختم شمعي مهترئ فتحته ببطء
"إلى من يجد هذه الكلمات… لا تثقوا بأحد ، ما ترونه على السطح ليس الحقيقة وتحت أقدامكم، هناك عالم لن يسامح من يفتحه دون
ثمن"
تجمد الدم في عروقي، شعرت بقشعريرة تسري في ظهري
خرجت من المكتبة وأنا أضم بين يديّ ذلك الكتاب الغريب، جلدته خشنة ومهترئة بعض الشيء، كأنها قاومت الزمن. لا أعلم ما الذي دفعني لحمله، لكن كان هناك شيء… شيء داخلي يدفعني لفعل ذلك، وكأن همسة من داخلي تقول ..خُذيه معك، ستفهمين لاحقًا..
لم أكد ألتقط أنفاسي خارج القاعة حتى سمعت صوت لينيا تناديني
"إيليورا! أين كنتِ؟"
لم أُجِبها فوراً، كنتُ لا أزال شاردة بذلك الكتاب بين يديّ، لكن فجأة، جاء طالب لا أعرفه، يبدو من السنة الأولى، اقترب منّي بخفة وقال
"الأستاذ يطلبك، قال أن تذهبي إلى مكتبه "
تبادلنا أنا ولينيا نظرة سريعة، فقالت لي بصوت منخفض
"سأكون هنا… إذا حدث أي شيء، اتصلي بي فوراً، يا غريبة الأطوار"
ابتسمت رغم ارتباكي، ثم توجهت نحو الغرفة بخطوات مترددة
طرقت الباب، لكنه لم يُجِب ، فتحته بحذر، دخلت… الغرفة كانت فارغة
تنفست بعمق وجلست على أحد الكراسي منتظرة، قلبي ينبض بخفة غير مريحة... دقيقتان… ثلاث… أربع لا أحد ، نظرت حولي، بصمت، ثم وقع بصري على مكتبه رأيت أوراق مبعثرة ومجلدات مفتوحة… لكن ما لفتني بشدة هو ملف كبير بلون الأسود مائل قليلاً على طرف المكتب وعليه عبارة صغيرة بخط يدوي
"المشروع الأسود - أسرار الجامعة"
تجمدت أطرافي لم أستطع المقاومة، اقتربت ببطء وسحبت الملف نحوي ثم فتحته بهدوء
فجأة… عيوني اتسعت، نبضي تسارع، عقلي لم يستوعب ما يقرأه
هناك تقارير، خرائط سرية، أسماء، رموز تشبه التي رأيتها في الكتاب الذي أحمله!
كلمات مثل
"اختبار سرية " تجنيد " مراقبة الطلاب"
ثم، بينما كنت أقلب الصفحات بحذر، وقعت عيناي على عدة صور مرفقة بملاحظات مكتوبة بخط يدوي دقيق
كانت الصور لأماكن داخل الجامعة… لكن الغريب أن معظم هذه الأماكن لم أكن أعرف بوجودها ...أسماء مثل
"الباب الخامس تحت القبو الشرقي"
"مخزن الفيزياء المحظور"
"الممر 14 المغلق منذ سنوات"
كل موقع بجانبه ملاحظات تحذر من الدخول إليه، وتُدرج تفاصيل مشوشة عن أنشطة حصلت فيه تم التعتيم عليها
وكأن هناك جزءاً آخر من الجامعة… يعيش في الظلال، لا يراه أحد، ولا يجب أن يراه أحد
تجمدت أصابعي فوق الورق، عيناي تتنقلان بين الرموز والخرائط كمن يبحث عن خيط نجاة في بحر من الغموض
لماذا… لماذا يملك الأستاذ هذا الملف؟
23تم تحديث
Comments