انتهيت من يوم عمل طويل ، خرجت من المطعم وقررت العودة إلى المنزل مشيا على الأقدام كانت الأجواء هادئة في الشوارع مما ساعدني على التخلص من التوتر الذي تراكم خلال اليوم
بمجرد وصولي إلى البيت ارتحت قليلا ثم فتحت حاسوبي أعيد ترتيب أفكاري وعيني تركز على المخططات التي كنت قد بدأت بها سابقا بدأت أضيف بعض من لمساتي الأخيرة على المشروع
بعد أن وضعت حاسوبي جانبا ، توجهت إلى سريري ثم استلقيت على ظهري وحاولت أن أغرق في الراحة لبضع لحظات ، ولكن كما جرت العادة بدا ذلك الكابوس المعتاد يتسلل إلى ذهني صورت الأحداث تتجمع ببطء تتشابك حولي ككابوس ثقيل
{والداي أمامي بكل قسوة لا يكتفون بالصراخ في وجهي فقط بل كانت كلماتهم تلاحقني مثل السكين ، أمي بوجهها الممتلئ بالغضب والكره كانت تضربني بلا رحمه وتصرخ في وجهي بغضب لم أفهمه قط "أنت بلا أية فائدة" تقول وهي تدفعني بعنف النحو الحائط وكانها تتمنى أن أختفي ، ثم يتبعها صوت أبي بروده القاتل المعتاد ينظر لي بأحتقار قائلا " يا ليتنا لم ينجبك ... أتمنى أن تموت الان وفورا " كلماته لم تكن مجرد عبارات بل طعنات تشق صدري ، أرى امي تمسك بي من شعري تجذبني بقسوة ، ووجهها يقطر كراهية خالصه ثم شرعت تقص خصلات بعنف وهي تقهقه وكأنها تعاقبني على ذنب لم أرتكبه يوما ... لم ينتهي المشهد عند هذا الحد ، بل امتد ليريني نفسي صغيرة ، وحيدة ، واقفة خارجه البيت تحت المطر الغزير أرتجف من البرد ، لم تكن هناك سوى قطعه قماش واحده تستر جسدي ، وكان المطر يلسعني كسياط ، أصرخ ، أستجدي و أتوسل من خلف الباب المغلق ، لكنهم لم يفتحوا الباب وكانوا يسمعون و يضحكون بكل فخر }
استيقظت فجاه وكان أحدهم انتزعني من أعماق بحر مظلم ، كانت انفاسي ضيقة وصوت قلبي يدق بعنف في صدري ، قطرات العرق البارد تجمعت على جبيني تتسابق في نزولها كأنها تفور من الكابوس الذي لم يرحم
وضعت كفي المرتجف على قلبي أحاول تهنئته عبثا ، ثم شعرت بها تلك القطرات المالحة تسللت على وجنتي ببطء تاركه ورائها أثار حرقا ، تلك الدموع التي كنت أمنعها قديما بسبب والداي تخرج بلا استئذان تحمل معها وجع كل تلك السنوات
سرت ببطء إلى الحمام، غسلت وجهي بالماء البارد على أن يطفء بعضا من الحرارة التي خلقها هذا الكابوس على بشرتي ، نظرت إلى المرآة لحظه ثم خرجت ، كان الوقت لا يزال مبكرا للذهاب إلى الجامعة جلست على طرف السرير أحدق بالسقف
رن صوت المنبه يعلن بداية يوم جديد ، قمت بتثاقل جمعت شتات نفسي مرة أخرى وتناولت شطيره صغيرة ،وارتديت قميصا زهريا بلون بارد هادئ قصير الأكمام مع بنطال أسود خفيف جمعت خصلات شعري إلى الخلف على شكل كعكه فوضوية تناثرت منها بعض الخصلات ارتديت حذائي ، ووضعت السماعات في أذناي
خرجت أمشي على قدمياي بهدوء ، في طريق إلى الجامعة أحاول أن أرجع التوازن إلى روحي
جلست على أحد المقاعد الخشبية في الحديقة الخارجية للجامعة ، كانت الحديقة تعج بالطلاب كل مشغول بعالمه ، لكن عيني لم تكن ترى سوى ذلك اللون الأخضر الذي يكسو المكان كله بالأعشاب والملساء تنتشر كغطاء ناعم فوق الأرض ، تتخللها أزهار ملونه من أنواع مختلفة ، كانت الأشجار تلوح بأغصانها بينما الطيور الصغيرة تنتقل من غصن إلى أخر مع تغريداتها المعتادة
سمعت خطوات خفيفة أعرفها جيدا رفعت في رأسي رأيتها لينيا ، كانت ترتدي فستانا أصفر المائل إلى الأبيض ، أما شعرها فقد ربطت جزء منه في كعكه مرتفعة غير مشدودة وتركت الباقي منسدلا على كتفيها وغرتها التي كانت تتطاير بسبب الهواء ، فتحت ذراعيها فجأة وبكل سرعة ركضت نحوي كما تفعل دوما ثم احتضنتني بقوة دافئة ، رفعت رأسها بخفه وكانت على وشك أن تتحدث لكن نظراتها توقفت على عيناي ، كانت عيناي منتفخة وحمراء من البكاء مما جعل لينيا تنظر لي بقلق شديد ثم قال
" ما الذي حدث معك ؟ ، هل بكيت اليوم ؟ هل ؟ أنت بخير ؟ " بصوت قلق
نظرت لها ثم شعرت بتلك القطرات المالحة تعود مجددا ، كما لو أن قلبي لا يزال يرفض أن يهدأ ، نعم لينيا هي الوحيدة القادرة على رؤيه دموعي حتى وأن حاولت أخفائها ، وما أن رأت تلك القطرات حتى احتضنتني بقوه وكانها تحاول احتواء في كل ما في داخلي من ألم ثم قالت
" هل هو ذلك الكابوس "
أومأت لها بخفه وسط دموعي التي لم تهدا ، بعد أن هدأت قليلا استعدت شيئا من قوتي المبعثرة ، وبدأنا نتحدث عن تلك الكوابيس
قلت بصوت بمتعب
" لينيا ، أنه نفس البيت ، نفس الصراخ و الكلمات التي تقتلني ببطء "
" وماذا ستفعلين الان ، إلى متى ستبقين أسيره لتلك الكوابيس ، ايلي .... لو كنت أستطيع أن أمسح كل ذكريات الماضي القدرة من رأسك لفعلت ذلك ، بل مزقتها بلا رحمه " بصوت حنون لكن مشحون بالقهر
نظرت لها بصمت ثم قلت
" ليت الأمر بيدي "
نهضنا معا وذهبنا لتلك المحاضرة الصباحية ، ذهبنا إلى محاضرة أخرى بعد أنتهائنا جلسنا في قاعة فارغة مع لوكاس و بدأنا بكتابة بعض الكودات الأساسية بأستخدام لغة الألية
"البايثون"
بقينا نعمل لفتره طويله نغوص في التفاصيل ونتجادل أحيانا حول أمور كثيره و لكننا في النهاية كنا نتقدم خطوه بخطوه ، بعد أن أنهكنا التعب اتفقنا على أن نجتمع مره اخرى في منزل لينيا هذا المساء ، بما أنني اليوم ليس لدي عمل في ذلك المطعم
قبل أن أخرج من القاعة مع لينيا أوقفني صوت لوكاس و هو يقول
" إيليورا ، لحظة من فضلك ، هل يمكننا التحدث "
لم أستطع الرد عندما قالت لينيا بهدوء
" أنا أنتظرك في الخارج "
أومأت لها بخفة ، التفت نحوه نظرت له بشيء من البرود ، لكن تلك العينان التي كانت تحمل نوع من المرح و الثقة تحولت إلى نظرت هادئة ثم قال
" أعتذر عن المرة السابقة لم أكن أقصد أن أتحدث بذلك الشكل عندما علمت أنك تعملين .... كان من الخطأ أن أحكم عليك "
صمت قليلا ثم أكمل
" أحيانا نظن أننا نعرف ما يدور في حياة الآخرين من نظرة واحدة ، لكن الحقيقة نحن لا نعلم شيئا "
نظرت إليه لبرهة ثم قلت
" لست واحدة من العديد لوكاس و لن أكون ، لكن على الأقل الآن عرفت الفرق " بصوت هادئ بشيء من التعب
زفرت ببطء أخرج كل ذلك الهواء الخانق ثم أكملت
"الاعتذار لا يغير الماضي ، لكنه خطوة نحو الاحترام ، آمل أن تكون خطوتك صادقة "
في نهاية كلماتي ارتسمت على وجهي ابتسامة صغيرة كانت تلك الابتسامة أشبه بعلامة هادئة على المسامحة
تبادلنا الابتسامة ، استدرت وخرجت حيث كانت لينيا تنتظرني مستندة على أحد الأعمدة تراقب الباب بعين فضولية
ما أن رأتني حتى قالت وهي تعقد ذراعيها
" هل أخيرا قرر الأمير أن يخلع خوذة الغرور؟ "
ضحكت قليلا وهززت رأسي
" ربما .....وربما ما زال يتعلم كيف يصبح فارسا حقيقيا"
سابقا ....
كانت لينيا واقفة على بعد خطوات تنتظر أن تبتعد إيليورا ، ثم اقتربت وحدقت به بعيناها الخضراء الامعة بجدية واضحة
" أتعلم ،إيليورا ليست مجرده طالبة عادية ، هي تعمل وتدرس وتحمل على نفسها كما لم يفعل أحد هنا ، هي لا تستحق نبرة الشفقة أو الاستغراب التي تحدثت بها سابقا " قالت بصوت ثابتا وحازم
أراد أن يرد عليها لكنها قاطعته بقول
"هي لا تحتاج إلى من يقلل منها، كرامتها عالية ، لسنا جميعا نعيش بنفس الظروف الحياه تعطينا درسا ، فكر قبل أن تتحدث مره أخرى "
أمسكت حقيبتها ثم خرجت غير عابئة بما يريد التحدث به أو أبرار موقفه
الآن .....
أمسكت لينيا بيدي وبدأنا نتمشى في الممر الطويل ، كان صامتا مليئا بالراحة تلك الراحة التي لا يشعر بها المرء إلا برفقة من يفهمه دون كلام ، ما أن مررنا بأحد الممرات حتى ضاقت عينا بلقاء تلك العينين السوداوين اللتان انطلقتا منهما نظرات هادئة متفحصه تحمل في عمقها سوادا لا يمكن تجاهله كأنها تخفي عالما لا يقرأ بسهولة ، لكنني أزحت بصري عنه فورا وكان شيئا داخلي رفض تلك النظرات أو خاف أن يغرق في فك شفراتها
دخلنا الى الكافتيريا وجلسنا في أحد الزوايا الهادئة ، تبادلنا الحديث ضحكنا قليلا وتحدثنا عن كل ما يدور في رؤوسنا من أشياء متفرقة كانت لحظات دافئة ، حتى نظرت إلى ساعتي لأتنهد بخفة
" علي الذهاب الى المقهى "
قالت لينيا و هي تتفقد هاتفها ، و تبتسم بخفة
" حسنا ، سأرافقك بعد عملك في المقهى لنكمل تلك المحضرات البائسة ثم نذهب إلى منزلي ، و لوكاس سينضم إلينا لاحقا "
خرجت من الكافتيريا مسرعة ، كان الوقت يلاحقني لأصل إلى المقهى قبل أن تبدأ نوبتي ، كنت أركض مسرعة، يحاول عقلي مواكبة كل شيء في نفس الوقت. يوم مليء بالضغوط والمشاعر المتخبطة، وعينيَّ تركزان فقط على الوجهة التي أمامي... لكن فجأة، شعرت بشيء غير متوقع ، كانت السيارة قادمة نحوي بسرعة لم أكن أستطيع التوقف أو حتى التفكير في الهروب في لحظة واحدة، كان كل شيء يقترب مني، القلب يدق بسرعة، وكل شيء بدأ يذوب في الضباب.
رفعت عيني بشكل لا إرادي، ووجدته .. كان هناك، يراقبني. كانت عيناه السوداويتان تغمرني بنظرة تركيز عميقة، وكأنما يستشعر ما كان يحدث لي في تلك اللحظة ، كنت قد أدركت فجأة أنه كان يراقبني من بعيد
وفي تلك اللحظة، جفل عقلي… وبعدما اقترب مني بسرعة، كان أمامي. نظرت إليه، وعينيه لم تفارقانني
كان صوته يخترق فوضى ذهني وكأنما كان يحمل كل المشاعر التي كنت في حاجة إليها في تلك اللحظة، شعرت بشيء غريب في صدري، شيء لم أفهمه تمامًا. ولكن مع كل خطوة اقترب فيها، شعرت بتلك الحماية الغريبة التي لم أتوقعها
" هل أنت بخير "
صوته كان يحمل شيء غير معتاد، وتلك النظرة التي في عينيه كانت مشوشة قليلا...لا أعرف لماذا، ولكن ذلك السؤال جعلني أبتلع تلك الدموع التي كادت أن تسيل .... كانت لحظة صغيرة، لكنها كافية لتشعرني أن ما يحدث كان أكثر من مجرد حادث عرضي
"أنا بخير… فقط… ربما كنت أسرع في الركض قليلاً" بصوت منخفض
لكنني شعرت بتلك اليد التي كانت تحاول التأكد من أنني في أمان ، شعرت بها على ذراعي وكأنها تخترق الحواجز التي كنت قد بنيتها حول نفسي
لحظة قصيرة، لكنه كان كافيًا ليشعل في داخلي شعورًا لم أكن أتوقعه شعور بالطمأنينة كان غير مفهوم، ولا أستطيع أن أفسره
"أنتِ… لا يجب أن تركضي هكذا ماذا لو تأذيتي ... هل أنت متأكدة أنك بخير"
قالها بصوت هادئ، لكن شيء في صوته كان ينبئني أنه يعني أكثر مما قاله
" لا تقلق أستاذ أنا بخير، علي الذهاب للعمال لآن و ألا سأتأخر"
نظر لي بغضب ممزوج مع الخوف ، و قال بصوت خافت كأنه يحاول أن يخفي غضبه
"و اللعنة ، هل هذا وقت أن تفكري بعملك "
نظرت له بصدمة و قلت في نفسي لما يهتم ثم أردفت
" مع كل أحترامي لك أستاذ ، لكنني لست مثلك أجمع مالي من التدريس ، أنا أجمع مالي لكي أواصل الحياة و لآن اذا تأخرت سأطرد"
زفر ببطء و قلة صبر و قال
"حسنا ...أركبي سياراتي سأوصلك"
"شكرا لك ...لكني سأرفض"
"إيليورا .. لا تجعليني أفرغ كل غضبي لآن أركبي السيارة أذا لم تريدن التأخر عن عملك "
وافقت بعد تفكير ، كان الطريق هادئا بشكل مخيف أحسست بوخز خفيف في كاحلي أعتقد أنه ألتواء لكن تجاهلته ، لحسن الحظ وصلت في الوقت نزلت من السيارة و شكرته
لكن قبل أن اذهب نادى علي بصوته الحازم مجددا
" هل أنت بخير متأكدة ... لاتخيفين عليكي"
نظرت له بصدمة لكنني أزلتها فورا عندما فهمتها أنه خائف على أحد طالباته
" نعم أنا بخير شكرا على قلقك"
أحسست أنه شعر أنني أتلم قليلا من قدمي عندما مشيت فأعطاني مرهم و ذهب بعد أن ألقى نظرة أخيرة علي
، بعد انتهاء جاءت لينيا كما وعدت انطلقنا معا إلى الجامعة وهنا وبعد ذهبنا إلى البيت وهناك أنضم إلينا لوكس
مرت الأيام بسرعة بروتين معتاد ، ما بين المحاضرة والعمل والمخططات التي لا تنتهي ، الشيء الوحيد الجديد هو صاحب تلك العينين السوداوين كسواد القمر حين يخنقه الليل اللتان أعتدت أن أراها تحدق بي بصمت حتى عندما رأني بعد تلك الحادثة سألني أن كنت بخير أمام لينيا التي أضطررت أن أشرح لها كل شيء، أصبحت علاقتنا أنا و لينيا مع لوكاس جيدة جدا حتى أصبحنا أصدقاء
كان علينا اليوم أن نعرض الفكرة الأساسية لمشروعنا أمام الاستاذ رويل ، كنت قد أنهيت من عملي في المقهى للتو ركضت خارجة بخطوات سريعة ، الخوف من التأخير كان يعصر قلبي كلما نظرت إلى ساعتي لكن للأسف لقد تأخرت
طرقت الباب بسرعه ،وكان قلبي يخفق لقبول الحرب كنت أرجو من كل جوارحي ان يكون الأستاذ لم يصل بعد ، دفعت الباب بخفة لكن أملي انطفأ إن التقيت عيناي بعيناه .... كان واقفا أمام الطاولة يحدق بي بنظره مشحونة بشيء من الغضب ونظره مقيته
قلت بانحناء خفيف وصوت حاولت جاهدة أن أرجعه إلى توازنه
" أنا أعتذر أيها الأستاذ على تأخري هل يمكنني الدخول ؟؟ "
لكنه لم يترك لي مجالا فرفع رأسه قليلا وقال بصرامة دون أن يرمش
"أنا منذ يومي الأول قد قلت لكم أنني لا أسمح لأي طالب متأخر بالدخول ، المتأخرون الذين يلهون لا مكان لهم في صفي "
شعرت بشيء ينهار بداخلي لكنني تماسكت .... لا يمكنني أن أخرج دون أن أقدم مشروعي لا يمكنني الفشل الآن و هذا أيضا سيلحق بأصدقائي
نظر لي بحدة ، ثم نقل نظره سريعا نحو لوكاس و لينيا ، توقف للحظة و كأنه يزن شيء بعينيه و سأل بلهجة صارمة
" من المسؤول عن المشروع "
رفعت رأسي ، وثبت قدمي كأنني أحمي كرامة عزيزه ،وقلت بثقه دون أن أسمح لتوتري بالظهور
23تم تحديث
Comments