حروف بلا صوت
كلّ ما علينا فعله هو أن نرسم لأنفسنا أهدافاً وأحلاماً.
لكن، ماذا عن زمن أراد أن يهدم كل شيء؟ أن يحوّلنا إلى هباء منثور...
وماذا عن لحظات تمنّينا فيها أن نكون سنداً والعون لأنفسنا، لكننا انحنينا في منتصف الطريق، دون أن نرى نور الأمل ولا بصيص الحياة؟
لا شيء كان صادقاً في حبّه، ولا أحد وفى بوعده، وتركنا على حافة الهاوية، متمسكين بغصن رقيق على انه حبل نجاة .
كانت ليلة مظلمة، تغطّيها غيوم كثيفة، والرياح تعصف بها، تُخفف عنها وطأتها بسقوط المطر.
كل حين، كانت السماء تضيء فجأة، يتبعها صوت هادر يشقّ الصمت.
كانت في بداية نومها حين رنّ هاتفها المحمول، الذي تضعه دائماً تحت وسادتها.
تناولت الهاتف، وفتحت الخط دون أن تنظر لهوية المتصل، فقد كان النعاس لا يزال يغلبها.
جاءها صوت امرأة في منتصف العمر، ناضج وواضح...
آه، إنها أمي.
جلست مستندة إلى ظهرها، تفرك صدغها لتجمع انتباهها:
"نعم، أمي؟"
قالت بصوت حاد وحاسم:
"قبل المساء، أريدكِ في المنزل."
رفعت حاجبها باستغراب وسألت:
"ما الأمر؟ هل كل شيء على ما يرام؟"
أجابت بنفس النبرة:
"قبل أن تأتي، اذهبي إلى مصففة الشعر، دعيها تُصفّف شعرك وتضع لك بعض مساحيق التجميل، واختاري شيئاً أنيقاً لترتديه. غداً سيزورنا أحد، ويجب أن تكوني بأبهى صورة."
ارتبكت ملامحها وقالت:
"أمي... أخبريني ما الذي يحدث؟ لم يمضِ وقت طويل منذ زيارتي الأخيرة، ولِمَ كل هذا الغموض؟"
قاطعتها بغضب:
"افعلي ما قلت لك، وتعالي في الوقت المحدد."
"ولكن أمي..."
لم تكمل، فقد أغلقت الخط.
حدّقت في الهاتف للحظة، أضواء الشاشة تنعكس على وجهها، ملامحها بدت لطيفة رغم ضوء الغرفة الخافت.
تملّكها الفضول... ما هذا الاتصال المفاجئ؟ ولماذا الآن؟
ما الذي تخطّط له أمها؟
قطع حبل أفكارها صوت صارم من السرير الآخر:
"كم مرة أخبرتكِ أن تضعي الهاتف على الوضع الصامت ليلاً؟! لقد أيقظتني. هل أنتِ سعيدة الآن؟"
إنها لمى، زميلتها في الغرفة، الجادة دائماً. تملك ساقين طويلتين وملامح حادة، ترتدي نظارة بسبب قصر نظرها.
قالت لها معتذرة:
"أنا آسفة، إنها أمي."
أجابت ببرود:
"وما شأني أنا؟ فقط لا تكرري الإزعاج."
"أعدك لن يتكرر، آسفة حقاً."
ردّت بجفاف:
"أتمنى ذلك."
زفرت بعمق، وكأن حملاً ثقيلاً انزاح عن كتفها.
عادةً ما تضع هاتفها على الوضع الصامت، لكن يبدو أن انشغالها اليوم جعلها تنسى.
آه، وكأن السماء تعاقبنها.
لكن... ما سبب هذا الاتصال المفاجئ؟ ما الذي تريده أمها فعلاً؟
بدأت تحكّ رأسها بتوتر، فصدر صوت خفيف أزعج لمى، فتنهدت بضيق.
عندها، انسحبت بهدوء إلى نومها مجدداً...
آه، نسيت أن أعرّفكم عليها.
أنها لمار، عمرها عشرون عاماً، تدرس المحاماة.
كانت عائلتها تُعدّ من النخبة في المجتمع، لكن كما يُقال: لا شيء يدوم، وعجلة الحياة لا تتوقف.
بالنسبة لعائلتها، دارت تلك العجلة سريعاً، جالبة معها مصيبة علّمتهم درساً قاسياً.
لم تعرف التفاصيل كاملة، لكنها متأكدة أن ما حدث له علاقة بها.
لطالما لمحت ذلك في نظراتهم وكلماتهم.
لكنها لم تعد ترغب بالتخمين. علّمتها الحياة أن ما يُخفونه عنك، لو عرفته، لن يسرك أبداً.
ضربت جبينها بكفها وقالت:
"لا بأس، غداً سأعرف الحقيقة."
ثم عدّلت وسادتها، وغفوت.
في صباح اليوم التالي، أيقظها صوت المنبه... نعم، اليوم عطلة.
فتحت عينها لتستقبل وسادة طائرة تضرب وجهها.
قالت لمى، غاضبة:
"كم مرة قلت لكِ ألا تزعجينا في يوم العطلة؟!"
أرادت الاعتذار، ضممت يدها وقالت:
"أنا آسفة."
تدخلت جنان، زميلتنا الأخرى، تقلّدها باستهزاء:
"في كل مرة تقولينها، وفي كل مرة تكررين نفس الخطأ!"
تدخلت سارة بلطافتها المعتادة:
"ألم تعتادوا بعد؟ لمار خُلقت لتعتذر."
ضحكت الفتيات، وضحكت معهن... كانتا نعيشان معاً منذ عامين، وكنّ دائماً مصدر دعم لها.
ارتديت بنطالها الجينز الواسع مع قميص أبيض ناعم كانت تحبّه كثيراً، ثم خرجت من الغرفة.
بعد ليلة مطر طويلة، أشرقت الشمس، ولا تزال رائحة المطر عالقة في الأرض، وقطرات الماء تتساقط من أوراق الشجر بهدوء.
شعرها الطويل كان مضفوراً، يتدلّى على كتفها، وخصلات منه تطايرت على وجهها، فبدأت تحك أنفها.
في تلك اللحظة، مرّ شاب من جانبها، شعرت أنه مألوف...
تلك العينان الخضراوان...!
"شمس؟" همست بدهشة.
كان يبتسم لها، تقدّمت نحوه بحماس، وابتسامتها واسعة كأنها نُطقت.
وقفت أمامه، صامتة، تحدّق فيه، وهو أيضاً كان ينظر إليّها بصمت.
كأنهم غرقنا في ذكرياتهم معاً...
لطالما كان شمس الأقرب إليّها بعد أختها ليلى.
قال أخيراً:
"كيف حالكِ لمار؟ لقد مضى وقت طويل منذ التقينا."
قالت بشوق:
"اشتقت إليك!"
ثم عانقته.
كان حضنه دافئاً... حقيقياً... كأنهم لم يفترقوا أبداً.
ثم ابتعدا قليلاً، قال بحماس:
"ما زلتِ كما أنتِ... لم تتغيّري."
ضحكت وقالت:
"وأنت أيضاً... لا تزال وسيماً كعادتك."...
بقلم (أليف)المعروفة ب ألو
Comments