في بداية الفصل الثالث لم تكن هناك أرض
ولا سماء
فقط ظلال الماضي تتناثر في عقل راين
كان قد خرج من الفراغ
لكن الفراغ لم يخرج منه
مشى بين الجبال دون أن يترك أثرًا
مرّ على الأنهار فتبخرت
نظرت إليه الطيور فسقطت ميتة
كان كل شيء فيه… يرفض الحياة
لم يتكلم
لم ينظر
كان يحمل في داخله صمتًا أقدم من الزمن
صمتًا يصرخ
في طريقه
رأى مدينةً عظيمة
عالية الأسوار
تحرسها سحرة وقادة
تطفو فوق بحرٍ من الغيوم
اسمها “نيرا”
مدينةُ النور السماوي
التي لم تسقط منذ عشرة آلاف عام
فيها يعيش أحد الخالدين العشرة
حاكم نار الجحيم
راين لم يكن يملك شيئًا
لا جيشًا
ولا حلفاء
ولا حتى نية الحرب
لكنه مشى نحوها
ببطء
كأن خطواته تُعيد تشكيل الواقع
فوق أسوار المدينة
ضحك الحراس
من هذا الأحمق الذي يقترب وحده؟
هل يجهل من نحمي؟
لكنهم لم يضحكوا طويلًا
إذ بدأ الهواء من حولهم يبرد
ثم يسخن
ثم يختنق
حتى انفجرت رؤوسهم دون أن يلمسهم
في الداخل
وقف حاكم النار
رجل من لهب
صوته كالرعد
قال
من تظن نفسك؟
أن تقترب مني دون إذن؟
راين رفع عينيه
نظرة واحدة فقط
جعلت الجدران تتشقق
والنار تنطفئ
قال بهدوء
أنا لا أقترب
أنا أعود
فأنا أول من خلق النار
وأول من خانها
صُدم الحاكم
لكن لم يخَف
أطلق نيرانه السماوية
جبالًا من اللهب
تنينًا من جحيم
أمطارًا من الحمم
لكن راين لم يتحرك
بل فتح يده
وامتص النار كلها كأنها نسيم
ثم ظهر خلف الحاكم دون أن يُرى
وقال
هل تشعر بالدفء؟
هذا ليس لهبك
بل حرارة الذنب
ثم غرس يده في صدره
وسحب قلبه
قلب النار
قلب الحاكم
موهبته الخالدة
صرخ الحاكم
فاهتزت المدينة
لكنه لم يمت
بل رأى كل نيران عمره
تتحول إلى رماد
وسقط راكعًا
يتنفس دمه
راين نظر إليه
ثم قال
لم آتِ لقتلك
بل لآخذ ما يخصني
فأنت استعرت هذا طوال حياتك
ثم وضع قلب النار في صدره
فاشتعل جسده من الداخل
لكن لم يحترق
بل استوعب اللهب
وصهره إلى طاقة خالصة
ثم التفت للمدينة
ولم ينطق بشيء
لكنها بدأت تسقط
حجرًا بعد حجر
من تلقاء نفسها
كأن وجودها لم يعد مسموحًا
غادر راين
لم يترك خلفه دمًا
بل فكرة
أن شيئًا فوق الخالدين... قد عاد
وأن القادم
أسوأ من الموت
غادر راين مدينة النور السماوي دون أن يلتفت
لم يكن هناك ما يستحق النظر
الخراب خلفه
والفراغ أمامه
لكن داخله… اشتعل
قوة حاكم النار بدأت تنصهر في أعماقه
ذكرياته
معاركه
أحزانه
كلها اندمجت مع وعي راين
رأى كيف بكى الحاكم يوم فقد أخاه
كيف قتل أمه بيديه ليُثبت ولاءه
كيف بنى قوته من جثث الأطفال
ثم كيف نسي كل ذلك وأطلق على نفسه لقب "الخالد"
راين ابتسم
ليس شفقة
بل سخرية
قال بصوت خافت
أنتم لا تفهمون الخلود
تظنون أن القوة تعني البقاء
لكن الخلود الحقيقي… هو أن تُنسى كل رغبة في الرحمة
مشى عبر الغيوم
الهواء من حوله كان يموت
حتى الطيور لم تجرؤ على الطيران بقربه
كان يسير كأن كل خطوة تفتح أمامه بابًا
إلى قارة جديدة
قارة الرياح
في تلك القارة
يُقال إن الرياح تتكلم
وأنها تُخبر الحاكم بكل من يقترب
وأن حتى فكرة الهجوم عليها تُسحق قبل أن تولد
لكن راين لم يُفكر
لم يخطط
هو فقط… مشى
في أعلى الجبل
في معبدٍ شفافٍ من زجاج الروح
كان يقف حاكم الرياح
رجلٌ بعينين لونهما الغيم
بجسدٍ لا يُلمس
وبهالةٍ تهتز لها السماء
شعر بوصول راين
لم يرَه
لكن شعر بأن شيئًا لا يجب أن يوجد… قد دخل
قال بصوتٍ يشبه العاصفة
تراجع
أنت تسير على أرضٍ لا تسامح
لكن راين لم يتوقف
وصل إلى قاع الجبل
ووضع يده على الأرض
فاهتزت الأرض
وانشق الجبل من منتصفه
نزل راين إلى الداخل
ولم يواجه حاكم الرياح
بل واجه ذاته
رأى نفسه
في صورة الريح
في صورتها حين تكون نسمة
وحين تكون إعصارًا
تحدث الريح إليه
قالت
أنت لست عدوًا لي
لكنني لن أسمح لك بالمرور
فهذه الأرض تحت سلطتي
وهذه السلطة وُهبت لي من قانون السماء
رد راين
أنا لا أؤمن بالسماء
ولا بالقانون
أنا أؤمن بأن من عانى ما عانيته
له الحق أن يأخذ ما يشاء
اشتدت الرياح
وصعد الحاكم
لم يكن غاضبًا
بل حزينًا
قال
أعرف من أنت
الوحش الذي خرج من الفراغ
لكن اسمعني يا راين
قوتك ليست كل شيء
لقد مزّقت جسدي ألف مرة سابقًا
لكنني عدت
لأن الرياح لا تُسجن
ولا تُقتل
ولا تُسرق
رد راين
أنت لم ترَ شيئًا بعد
ثم بدأ القتال
ضربات من الضوء
عواصف من الزجاج
صواعق تُكتب باللغة
وامتد الزمن فيه لآلاف السنوات
لكن في النهاية
سقط الحاكم
لا لأنه كان أضعف
بل لأن راين لم يكن يُقاتل ليكسب
بل ليُفرغ كل جحيم مرّ به
أخذ راين موهبة الرياح
لكن هذه المرة… لم يكتفِ
فتح فم الحاكم
وسحب روحه
ثم مزقها
وقال
الريح لا تُسجن؟
بل تُعلّق بين الحياة والموت
حتى تصرخ إلى الأبد
ثم سار نحو البحر
كان وجهه هادئًا
لكن داخله… عاصفة لا تهدأ
رأى انعكاسه على سطح الماء
لكن لم يرَ وجهه
رأى ماضيه
رأى الطفل
ورأى الذئب
ورأى الكائن الذي لا ينتمي لأي شيء
قال لنفسه
لم أعد بحاجة لاسم
ولا لوجه
أنا فقط… أنا
ثم غاص في البحر
حيث قارة الماء
حيث تسبح المدن تحت المحيط
وحيث تحكمهم امرأة
تُلقب بعين الحوت
عينها ترى النوايا قبل أن تولد
وتعرف الأسرار التي لم تُنطق
لكن حين اقترب راين
لم ترَه
بل رأت فراغًا
رأت موتًا لا يشبه الموت
قالت
أيها الكائن
عد
قبل أن تفسد هذا المكان
لكنه لم يرد
بل تابع السباحة
حتى غمر الظلام البحر
وتحولت الأسماك إلى رماد
وتفجرت فقاعات الزمن من حوله
قاتلها
قاتل الماء نفسه
وخنق البحر حتى بكى
وانشقت المدن تحت المحيط
وانطفأت الأضواء الزرقاء التي لم تنطفئ منذ عشرة آلاف عام
وحين وقف أخيرًا
كان يحمل في قلبه
نار الجحيم
صرخة الرياح
وصمت الأعماق
ولم يكن بشريًا
ولا شيطانًا
بل شيء جديد
شيء وُلِد من العدم
ويحمل كل المعاني التي نفاها العالم
وفي السماء
همس نجم قديم
لقد عاد
الكائن الذي لا يرحم
الذي لا يُقارن
ولا يُوقَف
اسمه لم يعد راين
بل صار اسمه
ما بعد الخوف
والخالدون الباقون
شعروا بالبرد لأول مرة
رغم أنهم لا يشعرون بشيء منذ آلاف السنين
Comments