حين دخل راين صدع الفراغ لم يسقط بل تمزق
جسده تفتّت إلى ذرات ثم إلى مفاهيم ثم إلى لا شيء
لم يكن يرى ولا يسمع ولا يشعر بالزمن
أول ما شعر به كان الندم
ندمًا عميقًا لا يعرف له سببًا ثم جاء الحزن ثم الغضب ثم الفراغ
مرّت مئة سنة ثم ألف ثم مليون
لكن لا شيء تغيّر
كان بلا جسد بلا صوت بلا اسم
فقط وعي مجرّد يتعفّن وسط العدم
أنا حي؟
أم مت؟
هل ما زلت راين؟ أم أنني الفوضى التي ابتلعتني؟
وفجأة
رأى جسده
كان يقف أمامه نسخة منه لكن بعينين خاويتين
قالت النسخة
لقد قتلتني يا راين هل تتذكرني؟ أنا الطفل الذي حلم الذي أحب الذي صدّق
ثم مزقت النسخة عنقها وسقطت
ظهرت أخرى
قالت
أنا من أحببت أمك أنا من شعرت بالخوف يوم احترق العالم
ثم شقّت صدرها ببطء
ثم أخرى
أنا من تمنيت فقط أن أُحتضن
ثم انتحرت بهدوء
آلاف النسخ بدأت تظهر
واحدة تلو الأخرى
كل جزء إنساني فيه كل حلم كل أمنية كل حب دفين
كان يُذبح أمامه ببطء وصمت
راين لم يستطع الصراخ لم يكن له فم
لكنه شعر بأن ما يحدث ضروري
شعر بأن الإنسان الذي كانه
يجب أن يموت
حتى يولد شيء جديد
بعد مليار سنة أعيد تشكيل جسده
لكن ليس كما كان
الدم داخله صار أسودًا
عظامه مصنوعة من الرفض من الصبر من الحقد المُكبوت
جلده من رماد الخيبات
وعيناه فقدتا القدرة على البكاء
وقلبه لم يعد قلبًا
بل بئرًا مغلقًا لا يسقط فيه شيء ولا يخرج
في الفراغ لم يتعلم السحر فقط
بل تعلم كيف يُمزق قوانين الطبيعة ويعيد كتابتها
تعلم أن النار لا تحرق من قرر أن يشتعل
تعلم أن الزمن لا يمضي على من لا يعترف به
تعلم أن القوة ليست شيئًا تأخذه بل شيئًا تصبحه
زرع نفسه
جلس آلاف السنين يتأمل في ظلمةٍ لا يرى فيها سوى عقله
كل فكرة كل خوف كل ألم واجهه بصمت
كان الفراغ يتحدث إليه لا بالكلمات بل بالألم
علمه أن الصراخ لا ينقذك
أن الرحمة وهم
أن الحب خرافة
تعلم جميع أنواع السحر
حفظ آلاف القوانين
قاتل نسخًا من نفسه في معارك لا تنتهي
تمرّن بالسيف بالرمح بالكلمة وبالصمت
ولم يكن يفوز دائمًا
بل كان يُذبح ويُذبح ويُذبح
لكن كل مرة كان يقوم
حتى أصبح الألم صديقه الوحيد
أصبح كل جرح درسًا
كل موت خطوة
وكل هزيمة طريقًا
وبعد مرور 1,999,999,999,998 سنة
وقف راين
لم يكن يشبه نفسه
كان الظلام في جسد بشري
كان النسيان في شكل رجل
كان كائنًا بلا ماضٍ ولا مستقبل
فقط حاضر لا يقهر
مشى فوق هواء الفراغ
فتح عينيه وهمس
من الآن أنا هو أنا
وفي تلك اللحظة
اهتزّ الصدع
وابتدأ العالم يرتجف
نظر راين إلى الفراغ
ولأول مرة
لم يخَفْ منه
بل شعر بأنه يعرفه
كأنهما شيء واحد
كأن الفراغ يسكنه وهو يسكن الفراغ
بدأ يمشي
كل خطوة يخطوها
كانت تصنع موجة من الصمت
تُمزق العدم
وتجعل الوجود يتراجع خطوة للوراء
كان وحده
لكن لم يكن وحيدًا
فالأرواح التي ذبحها داخله
لا تزال تهمس
الطفل
المُحب
الحالم
كلهم لازالوا هناك
لكنه لم يعد يسمعهم كما كان
بل يسمعهم كأصداء بعيدة
كأشباحٍ حاولت أن تبكي
لكنها نسيت كيف
اقترب من جدار الفراغ
حيث ينتهي كل شيء
مد يده
لم يكن هناك حاجز
لكن كان هناك معنى
المعنى نفسه الذي سقطت فيه البشرية
الضعف
ولأن راين لم يعترف به
مرّ
كأن الضعف لم يوجد أبدًا
في الداخل
رأى كونًا صغيرًا يدور داخل قطرة
وقطعة زمنٍ مجمّدة في فقاعة
وأصوات حُكام الكون وهم يبكون
كان يرى كل شيء
ماضيه
مستقبله
موته
بعثه
خياناته
ضحاياه
ورأى لحظة سقوطه القادمة
لكنه لم يَخشَ شيئًا
جلس وسط العدم
ليس ليرتاح
بل ليصيره
مدّ يده وغاصت في الظلام
لم يقاومه
بل رحّب به
وبدأ يمتص الفراغ نفسه
بدأت قوانين العالم تتمزق حوله
كل قانون
كل مبدأ
كل قاعدة كونية
تنهار أمامه
لم يكن يتعلم الآن
بل كان يخلق
خلق قانونه الأول
"من يعرف الألم، لا يُكسر"
ثم خلق الثاني
"من فقد كل شيء، يحق له كل شيء"
ثم الثالث
"من صار الفراغ، لا يُقتل ولا يُنسى"
تجلّت هالته
لكنها لم تكن ضوءًا
ولا نارًا
كانت أشبه بكراهية الكون له
فالواقع كله
بدأ يرفض وجوده
لكن
كان قد فات الأوان
راين لم يعد يحتاج أن يُقبل
لقد صار شيئًا لا يُنكر
لا يُقارن
ولا يُهزم
وهو ينهض الآن
كان جسده يذوب ويُخلق في نفس اللحظة
مليارات الأرواح تحترق داخله
مليارات القوانين تنصهر فيه
ابتسم
لا فرحًا
بل سخرية
وقال بصوتٍ لم يكن صوتًا
بل زلزالًا يتنفس
"هذا ليس انتقامي"
"هذا أنا"
وفي تلك اللحظة
احترق جزء من الفراغ
وانفتح فيه طريقٌ جديد
لم يكن يقود إلى عالمٍ آخر
بل إلى ما قبل الخلق نفسه
وراح راين يمشي فيه
ليس ليستكشفه
بل ليعيد كتابته من جديد
Comments