> "كل شيء فيني يبدو طبيعيًا…
حتى اللحظة التي أُغلق فيها الباب، وأبقى وحدي مع صوتي."
كانت الساعة تقترب من السابعة مساءً، والمبنى بدأ يخلو من الحركة.
أنهت كلوي تقرير التقييم، ووقّعته بخط يدها، ثم أرسلت النسخة إلى الإدارة.
كل شيء بدا مرتبًا.
كأن يومها مرّ بسلام.
لكن داخلها، لم يكن هناك شيء من الهدوء.
**
في طريقها إلى المصعد، أحست بدوارٍ خفيف.
أصوات المكاتب تُغلق، وضحكات آخر الموظفين تتلاشى…
وكل خطوة تخطوها، كانت تُشبه المشي نحو حافة.
وقفت أمام المرآة الصغيرة في زاوية الطابق.
نظرت إلى عينيها، وقالت همسًا:
"لم أعد أعرف من أنتي."
ضغطت زر المصعد، دخلت وحدها.
أُغلق الباب.
ثلاث ثوانٍ فقط.
ثم بدأت النوبة.
ضيق في التنفس، ضربات قلب سريعة، وارتجاف في أطراف أصابعها.
وضعت يدها على صدرها، ثم انزلقت ببطء حتى جلست على الأرض.
الضوء في المصعد كان أبيضًا باردًا، يزيد كل شيء رعبًا.
وكأنّه يُضيء وجهها لينكشف هشاشتها.
همست وهي تحاول السيطرة على نفسها:
"أنتِ بخير… أنتِ بخير… مرّت قبل كذا، راح تمرّ…"
لكن الصوت داخلها كان يصرخ:
"كلا، هذه المرة مختلفة."
المصعد توقف فجأة.
الباب فتح، وكان ليام يقف أمامه.
تجمّد للحظة حين رأى كلوي جالسة على الأرض، شاحبة الوجه، تتنفس بصعوبة، وعيناها مملوءتان بالخوف.
قال بسرعة، بصوت منخفض لكنه واضح:
"كلوي؟ هل أنتِ بخير؟"
لم تجبه.
كانت تحاول الوقوف، لكنها فقدت التوازن.
دخل المصعد بسرعة، جثا بجانبها، وقال:
"خذي نفس... ببطء… ركّزي عليّ."
نظرت إليه بعينين زجاجيتين، كأنها لا تعرفه.
كأنها لا تعرف نفسها أصلًا.
قال مرة ثانية، لكن بنبرة أكثر حنانًا:
"أنا معك. ما راح يصير شي. ركّزي معي، بس أنا وأنتِ."
ببطء شديد، بدأت تتنفس معه.
عيناه لم تفارقا عينيها.
بعد دقائق، بدأت نبضات قلبها تهدأ.
لكن بداخلها، شيء ما انكسر.
**
حين فتحت عينيها جيدًا، كانت واقفة خارج المصعد، تستند على الحائط، وهو يقف أمامها ممسكًا بزجاجة ماء.
ناولها إياها دون كلمة.
شربت بصمت، ثم قالت بصوت مبحوح:
"شكرًا…"
قال بهدوء:
"هل هذا أول مرّة يحصل معكِ؟"
صمت.
أجابت بعد ثوانٍ:
"لا أعرف."
أراد أن يسأل المزيد، لكنه شعر أنّه لو اقترب أكثر… قد تغلق الباب للأبد.
فقال ببساطة:
"أنا فقط... أردت التأكد أنك بخير."
استدارت تمشي، لكنه سمعها تقول بصوت منخفض:
"أنا لست بخير يا ليام... لكن لا أحد يعرف كيف يبدو الداخل."
**
تركته واقفًا هناك، بين باب المصعد وظلّ سؤالٍ جديد…
"من تكون كلوي؟ ولماذا كل هذا الحزن في جسدٍ يبدو قويًا؟"
**
بعد أن تركت ليام واقفًا عند المصعد، صعدت إلى مكتبها في الطابق العلوي.
الخطى بطيئة، والهواء بارد، لكن عقلها أكثر برودة.
دخلت، وأغلقت الباب وراءها.
سحبت الستائر، أطفأت الضوء، جلست خلف المكتب، وحدها.
وأخيرًا… أزالت قناعها.
**
نظرت إلى يديها، كانت ترتجف قليلاً.
وضعت كفها على جبينها، وأغمضت عينيها.
وفجأة، عادت الأصوات.
صوت صراخ بعيد.
باب يُغلق بعنف.
طفلة تبكي في غرفة مظلمة.
ثم همس… صوت أنثى يقول:
> "اصمتي، لا يسمعك أحد."
ارتجفت شفتاها، كأنها سمعت الجملة للتو.
كأن الزمن لم يمضِ.
**
فتحت عينيها بسرعة، وقفت، مشت نحو خزانة صغيرة، أخرجت منها دفترًا قديمًا بلون كحلي باهت.
فتحت الصفحة الأولى.
كان هناك رسم بسيط لطفلة، واقفة وحدها تحت المطر.
تحتها مكتوب بخط طفولي:
> "أنا أكره صوت الأبواب حين تُغلق، لأنه يذكرني بمن خرج ولم يعد."
**
أغلقت الدفتر، خبأته، ثم وقفت تنظر من النافذة.
المدينة من الأعلى بدت صغيرة، مزدحمة... لكنها غير مهمّة.
قالت بصوت خافت لنفسها:
"لا أحد يرى من نحن… الناس لا تنظر إلا لما نُريهم."
**
رنّ هاتفها.
رقم داخلي. ليام.
ترددت.
ثم أجابت، بصوت هادئ:
– "نعم؟"
– "أنا آسف على ما حصل اليوم. لم أقصد التدخل، فقط… شعرت أنه يجب أن أكون هناك."
صمتت قليلًا، ثم قالت:
– "لا تعتذر… بعض الأبواب حين تُفتح، تكون أخف من غيرها."
– "ماذا تعنين؟"
– "لا شيء… مساء الخير، ليام."
وأغلقت الخط.
**
ليام بقي يُحدّق في الهاتف بعد المكالمة.
قال بصوت منخفض لنفسه:
"أبواب؟… ما الذي أغلق في حياتكِ يا كلوي؟"
**
في تلك الليلة، لم تنم كلوي.
جلست أمام النافذة، تشرب الشاي البارد، تفكّر في شيءٍ لا اسم له.
وفي داخلها، كانت هناك نسختان منها تتحدثان:
– "ألم يكن من الأفضل أن لا يرى نوبتك؟"
– "لكنه لم يهرب… بقي."
– "وستدفعين الثمن قريبًا… كل من اقترب، دفع الثمن."
**
لكنّها رغم ذلك، ولأول مرة، لم تشعر أنها تمامًا وحيدة.
شخص واحد فقط… رأى الكسر، ولم يهرب.
وهذا، وحده… ربكة جديدة لم تكن مستعدة لها.
**
ليام لم يعد كما كان قبل نوبة المصعد.
كان يُراجع ملفات التدريب بهدوء، يكتب ملاحظات، ويستمع لموسيقى خفيفة في أذنه، لكن تركيزه… في مكانٍ آخر تمامًا.
وجهها لم يغب عن ذهنه.
نظرتها حين قالت:
> "أنا لست بخير يا ليام… لكن لا أحد يعرف كيف يبدو الداخل."
تلك الجملة… علِقت في روحه.
وكأنّها لم تكن تعبيرًا عن حالها، بل صفعة ناعمة تذكّره أنه ما زال لا يعرف شيئًا عن البشر.
**
في ذلك اليوم، قبل أن تنتهي ساعات الدوام، كتب لها رسالة داخلية قصيرة:
> "هل تشربين القهوة؟"
لم يكن يقصد بها دعوة، بل سؤال بسيط.
انتظر الرد.
لم ترد.
ابتسم ساخرًا من نفسه، أغلق الحاسوب، وخرج من المكتب.
لكن حين وصل إلى المصعد، وجدها تقف أمامه.
**
لم تلتفت إليه في البداية.
كانت تقرأ شيئًا على هاتفها، ثم شعرت بوجوده فرفعت رأسها، وابتسمت بخفة، وقالت:
"جوابًا على سؤالك… نعم، لكنني أحب الشاي أكثر."
تفاجأ قليلًا، لكنه أخفى ذلك بابتسامة هادئة، وقال:
"شاي؟ هذا يعني أني كنت على خطأ في التحليل."
"أنت تحلل حتى الذوق؟"
"المدربين الجيدين يلاحظون كل شيء."
ضحكت، لكنها لم ترد.
ركبا المصعد معًا.
الصمت كان خفيفًا، لا يُزعج.
ثم قالت:
"لماذا سألت؟"
قال ببساطة:
"لا أعلم… شعرت أن الحديث معكِ بعد ما حصل، طبيعي."
نظرت إليه للحظة، ثم قالت بهدوء:
"الطبيعي نادر هذه الأيام، ليام."
وصل المصعد للطابق الأرضي.
خرجا معًا، لكن كلٌ ذهب في اتجاه مختلف.
هي إلى سيارتها.
هو إلى المقهى القريب.
لكن في قلب كلٍّ منهما…
بدأ شيء صغير ينمو.
شيء لا اسم له بعد،
ولا وعي له بعد،
لكنه حقيقي.
**
ليام، في المقهى، وقف أمام قائمة المشروبات، ثم نظر إلى الباريستا وقال:
"كوب شاي… أحمر. بدون سكر."
وسكت لحظة، ثم ابتسم لنفسه.
Comments