أنت لا تعرف...
ولا أحد يعرف."
همست بها كلوي وهي تحدّق في انعكاس وجهها في زجاج المصعد، لحظة عودتها من الطابق العلوي.
عيناها غارقتان في لونٍ باهتٍ من الذكرى… ذكرى لا صورة لها، لكنها تُخيفها.
وصلت إلى مكتبها، وضعت الأوراق، وجلست بهدوء.
كان العالم خارج النافذة هادئًا، تمامًا مثل الداخل…
لكنّ داخلها لم يكن ساكنًا أبدًا.
**
في المساء، حين خفّ الازدحام في الشركة، مرّ ليام أمام مكتبها دون أن يُلاحظ أنها هناك.
كان يحمل ملفات، وعلى وجهه نظرة تركيز.
خطواته سريعة، منظمة، لا فوضى فيها.
راحت تراقبه من خلف الزجاج، كأنّها تدرسه.
ثم ابتسمت بسخرية داخلية:
"تدرسينه؟ هل تحاولين أن تفهمي أحدًا؟ أم تحاولين فقط أن تشتيتي نفسك عنكِ؟"
**
في اليوم التالي، كان ليام ينتظرها أمام قاعة الاجتماعات.
قال مبتسمًا بخفة:
"وصلت قبلك اليوم."
رفعت حاجبها، قالت بلا ابتسامة:
"هذا لا يجعل منك محترفًا."
ضحك قليلًا، ثم قال:
"ولا أنتِ."
توقفت، نظرت إليه…
نظرة طويلة، صامتة.
ثم فتحت باب القاعة ودخلت دون تعليق.
كان بإمكانه أن يعتبرها متعجرفة.
لكنّه لم يفعل.
وكان بإمكانها أن تبتسم له…
لكنها لم تستطع.
**
خلال التدريب الثاني، لم يكن الجو رسميًا كما في المرة الأولى.
كان الحديث متوازنًا، وبعض النكات الخفيفة خرجت بين سطور الكلام.
لكن كلوي، رغم خفّتها الظاهرة، كانت تقاوم نفسها.
كل ضحكة، كانت تُخرجها كأنها تُحارب بها جيشًا من الأفكار.
"لماذا أضحك؟ لماذا أشعر أن هذا الشاب… لا يخيفني؟
ولماذا... لا أريد أن أراه كثيرًا؟"
**
في إحدى اللحظات، سقط قلمها أرضًا.
انحنى ليام والتقطه بسرعة، ثم وضعه على الطاولة.
لم يلمس يدها، لم يقترب.
لكنّها شعرت بشيء بارد يجتاح أطرافها.
شهقة خفيفة، لم يسمعها أحد.
ولكنها شعرت بها.
حين رفعت رأسها، نظرت إلى عينيه…
تلك النظرة، تلك الدقيقة، لم تكن مثل أي شيء مرّ بها من قبل.
شيء فيها توقّف.
شيء آخر، قد بدأ.
**
في نهاية الحصة، قالت بصوت خافت لم تعرف كيف خرج منها:
"هل تكتب؟"
نظر إليها باستغراب بسيط، ثم قال:
"أحيانًا… لماذا؟"
هزّت رأسها:
"لا أدري… فقط بدا عليك أنك تكتب."
قال مبتسمًا:
"وأنتِ… هل تحبين القراءة؟"
أجابت، بعد لحظة صمت:
"كنت أهرب إليها."
قال:
"وهل نجحتِ؟"
ابتسمت، لأول مرة.
لكن ابتسامتها لم تكن سعيدة.
كانت كأنها تقول:
"لا أحد يهرب فعلاً… نحن فقط نؤجّل سقوطنا."
**
خرج ليام، بقيت هي وحدها في القاعة.
وضعت يدها على الطاولة، وكأنها تحاول أن تثبّت نفسها في الحاضر.
"أنت لا تعرف يا ليام...
وأنا لا أريدك أن تعرف."
لكنها كانت تعلم… أن الأشياء بدأت تتغيّر.
ربما هي...
وربما هو.
*
سكنت الغرفة بعد مغادرة ليام، وسكنت معها أنفاسها.
لم يكن في المكان سوى صوت مكيّفٍ قديم يهدر فوقها، وبضع أوراق على الطاولة، ورائحة خافتة من عطرها الذي لا يتغير.
جلست مجددًا. نظرت إلى الطاولة أمامها.
عيناها تائهتان، لا تنظران إلى شيء محدد.
كأنها كانت تنتظر شيئًا… أو تخشى قدومه.
**
أغمضت عينيها ببطء.
وفي الظلمة، بدأت الصور تتحرك.
صورة يدٍ ترتجف على مقبض باب.
صوت خافت يقول: "أرجوكِ، لا تقولي لأحد."
ضوء مصباح سقفٍ يتأرجح… وسوادٌ كامل بعده.
فتحت عينيها بسرعة، تنفّست بعمق.
غمرها إحساس بالخوف.
خوف بلا اسم.
**
تمتمت:
"كفى. ليس الآن… ليس اليوم."
وقفت، مشت بخطوات ثقيلة إلى النافذة.
الشارع في الأسفل مكتظ، الناس تتحرك، تضحك، تركض، تأكل… تعيش.
أما هي، فكانت فقط: تُراقب.
رفعت رأسها للسماء الرمادية.
قالت داخلها:
"هل سأظل دومًا خلف الزجاج؟"
"هل سأتعلّم يومًا أن أكون أنا... دون أن أرتجف؟"
**
رنّ هاتفها فجأة.
رفعت الجهاز، نظرت إلى الاسم: "مساعد الموارد البشرية".
أجابت بهدوء.
– "مرحبًا آنسة كلوي، نحتاج منك تقارير التقييم الأولي للمتدربين، خاصة الموظف الجديد... ليام."
صمتت لحظة، ثم قالت:
– "سأرسلها نهاية اليوم."
أغلقت الهاتف.
نظرت إلى الورقة البيضاء التي ما زالت أمامها…
كتبت في أعلاها اسمه:
ليام ستيوارت.
لكن يدها توقّفت عن الكتابة.
نظرت إلى الاسم طويلًا، ثم تمتمت:
"مختلف… لكن لا أعلم لماذا."
**
في تلك اللحظة، شعرت بخطى تقترب من الباب.
طرقٌ خفيف، ثم صوت مألوف:
"هل يمكنني الدخول؟ نسيت ملف التدريب عندكِ، أظنه سقط."
عرفت صوته.
لم تتوقّع عودته بهذه السرعة.
بل، لم تتوقّع شيئًا أبدًا.
– "تفضل."
دخل ليام بخطوات هادئة، عيونه تبحث عن الملف.
رآه أخيرًا بجانب الطاولة، التقطه، ثم رفع نظره نحوها.
كانت واقفة قرب النافذة، ظهرها له.
قال بلطف:
"هل أزعجتكِ؟"
هزّت رأسها دون أن تلتفت:
"أبدًا. فقط... أنا لا أحب المفاجآت."
ضحك بخفة وقال:
"إذن لن أكررها."
أرادت أن تقول له:
"لكنني... أنا نفسي مفاجأة، حتى لي."
لكنها صمتت.
**
استدار ليام ليخرج، ثم توقف عند الباب، قال فجأة:
"بالمناسبة… حين قلتِ أنكِ كنتِ تهربين إلى القراءة… شعرت أنني أفهمك."
نظرت إليه، هذه المرة عيناها مباشرةً في عينيه.
– "أأنت تهرب أيضًا؟"
ابتسم ابتسامة لا تشبه أي ابتسامة، وقال:
"دائمًا."
ثم خرج.
**
بقيت وحدها.
لكنها هذه المرة، لم تشعر بالوحدة تمامًا.
شيء ما فيها… تغيّر.
كأن هناك شخصًا آخر على وشك أن يستيقظ داخلها.
كأن الماضي... بدأ يتململ.
**
Comments