الفصل الأول

مدّت يدها بكسل من تحت البطانية، تتلمّس المنبه حتى أوقفته بضربة خفيفة، قبل أن تنهض بتثاقل. صوت تنفسها كان هادئًا لكنه مشوب بشيء من التعب. مشت بخطوات ثقيلة نحو الحمام، عيناها نصف مغمضتين كأن جسدها سبق عقلها في الاستيقاظ.

بعد دقائق، خرجت تلفّ المنشفة حول جسدها، قطرات الماء تتسلل من خصلاتها النحاسية، ترسم مسارات على بشرتها قبل أن تتساقط على الأرض. توجهت إلى الخزانة، سحبت ملابسها دون تفكير، ترتديها بسرعة بينما تمسح قطرات الماء من عنقها. قميص أبيض، تنورة سوداء تصل إلى ركبتيها، وسترة بنفس اللون تحمل شعار "فاليريو".

أمام المرآة، تأملت انعكاسها للحظات. ابتسامة خفيفة ارتسمت على شفتيها وهي تجدّل شعرها بعناية، تقسمه إلى نصفين، كل جهة مجدولة بإتقان، ثم ثبّتت مشبك شعر على شكل ورقة شجرة الأبنوس الكاذب. رمشت ببطء، تأملت تفاصيل وجهها لثوانٍ، ثم رمقت الساعة... شهقت!

"يا إلهي!"

قفزت نحو الحقيبة الموضوعة في الزاوية، أمسكت بها بسرعة، واندفعت نحو الباب. في طريقها، ألقت التحية على الجيران وأصحاب المتاجر، تبتسم لهم بإشراق رغم العجلة. كانت الابتسامات تُرد إليها، بعضها صادق، وبعضها مجرّد مجاملة.

عند المدرسة...

وقفت للحظة تتأمل المكان. عيناها جالتا على المبنى الفخم، الأشجار المصطفّة، والسيارات الفارهة التي تنزل منها طلاب يبدون... مختلفين. ملابسهم مشابهة لما ترتديه، لكن الطريقة التي يسيرون بها، ثقتهم العالية، طريقة تبادلهم النظرات، كلها أشياء جعلتها تشعر وكأنها دخلت إلى عالم لا يشبهها.

أغلقت فمها الذي انفرج بغير وعي، ابتلعت ريقها، ثم تقدمت نحو المدخل بخطوات ثابتة.

داخل مكتب السيد فرانك...

كانت تجلس مستقيمة، يديها مطويتان في حجرها، تحاول التركيز مع كلام السيد فرانك وهو يشرح قواعد المدرسة. لكن عينيها كانتا تلتقطان التفاصيل من حولها: رفوف مرتبة بعناية، رائحة القهوة التي ملأت المكان، الملفات المكدّسة على الطاولة، والتجاعيد التي تتعمق على جبين السيد فرانك مع كل جملة ينطقها.

عندما انتهى، أعطاها جدولها الدراسي، ثم رن الجرس. رفعت رأسها، والتقت عيناها بعينيه.

"هيا، سأوصلك إلى صفك."

داخل الصف...

توقف الحديث فجأة عند دخول السيد فرانك. انخفضت الأصوات، وجلس الجميع في أماكنهم بترتيب آلي.

"مرحبًا بعودتكم جميعًا. هذه سنتكم الأخيرة هنا، وأريد أن أرى تركيزًا كاملًا منكم. لا مشاكل، لا تهاون. في هذه السنة سينضم إليكم فرد جديد، وأتمنى أن تكونوا على وفاق معها."

كان الجميع يحدّق نحو الباب حيث وقفت هي، إحساس غريب انتابها وهي تتلقى هذا الكم من النظرات، لكنّها رسمت ابتسامة هادئة على شفتيها ودخلت بخطوات ثابتة.

"مرحبا.. أنا باتسي لورا، تشرفت بمعرفتكم جميعًا، وأتمنى أن نكون على وفاق."

كان هناك صمت للحظات، ثم بدأت الهمسات تتصاعد. بعض العيون كانت باردة، وبعضها فضولي، وبعضها مليء بالحكم المسبق. لكنها لم تسمح لأي منها بأن يمس ابتسامتها.

"اختاري مكانًا شاغرًا واجلسي فيه، آنسة لورا."

نقلت نظرها، ثم توجهت إلى المقعد الأخير بجانب النافذة، المكان المثالي لمراقبة كل شيء دون أن تكون في قلب الأحداث.

ما إن خرج سيد فرانك ، دخلت سيدة سوزانا التي اتضح أنها أستاذة في التاريخ وطبعا كانت أكثر ساعة مملة قضتها لورا تنقل عينيها على الجميع محاولة معرفة أدق تفصيل عنهم لعلها يساعدها ذلك بالانسجام معهم لكن لم يخلو ذلك من نظراتهم الفضولية نحوها لينتهي الأمر بإشاحة نظرها عنهم نحو النافذة تستمتع بنسيم الذي يتسلل منها

انتهت الحصة الأولى، وبدأ الهمس يدور من جديد، لكن هذه المرة كان مصحوبًا بنظرات مباشرة. عندما اقتربت مجموعة من الفتيات منها، رفعت رأسها بهدوء، وكأنها كانت تتوقع ذلك.

الأولى، التي تبدو أنها الزعيمة، انحنت قليلًا نحوها، نبرة صوتها تحمل خليطًا من التسلية والغرور:

"تشرفت بمعرفتكِ يا..."

"باتسي لورا."

رفعت الفتاة حاجبًا باستهجان، وكأن الاسم لم يعجبها:

"أيًّا يكن، أنا جوليانا."

أومأت لورا بابتسامة صغيرة، تكرّر الاسم ببطء:

"جوليانا.. مم، ماذا يعني اسمكِ؟"

ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتي جوليانا، ثم أطلقت ضحكة قصيرة:

"يا له من سؤال!"

"لماذا؟ ألا تعلمين معناه؟"

هنا، تلاشى التسلية من وجه جوليانا، وحلّ محلها استنكار خفيف:

"من لا يعرف معنى اسمه؟ إنه يعني الحسناء، طبعًا."

قبل أن تتمكن من إضافة شيء، ضمّت لورا يديها بحماس، عيناها تلمعان بإعجاب طفولي:

"واو، اسم جميل!"

نظرة استغراب عابرة مرت بين الفتيات الثلاث، قبل أن ترفع إحداهن حاجبها وتقول بابتسامة جانبية والتي كانت تدعى كاميلا :

"لورا، ماذا يعمل والدك؟ هل يملك شركة؟ محامي؟ طبيب مشهور؟"

لم تتردد لورا لحظة، أجابت بنفس الابتسامة:

"مزارع."

ساد صمت قصير. التقت أعين الفتيات ببعضهن، قبل أن تضحك كاميلا:

"تقصدين أنه يملك أراضٍ زراعية، صحيح؟ أين تقع؟ كم هكتارًا لديه؟"

"لا، لا، والدي ليس مالك أراضٍ، هو فقط... يزرع البطاطا، الطماطم، البصل. أوه، ولدينا أيضًا شجرة كبيرة من—"

نفجرت جوليانا ضاحكة، تبعتها الأخريات. كانت الضحكة صاخبة، ساخرة، حتى أن بعض الطلاب التفتوا إليهن. بقيت لورا تنظر إليهن باستغراب، تحاول أن تفهم سبب الضحك، دون أن تبدو عليها أي إهانة.

"لا أصدق، طالبة جديدة... وابنة مزارع؟!"

قاطعهما دخول الأستاذ، فعادت الفتيات إلى أماكنهن، لكن النظرات المستهزئة لم تغادر أعينهن. أما لورا، فاكتفت بتنهيدة خفيفة، ثم التفتت إلى النافذة، حيث كانت أوراق الأشجار تتراقص مع الريح، غير مبالية بما يدور حولها.

في الكافيتيريا...

اختارت طاولة صغيرة في الزاوية، وضعت شطيرتها وقارورة العصير بجانبها، ثم شبكت يديها تحت ذقنها تتأمل القاعة بصمت. كانت هناك مجموعات متفرقة، كل واحدة تشكل عالمًا مغلقًا خاصًا بها.

لكن هذا الهدوء لم يدم طويلًا.

بخطوات محسوبة، اقتربت جوليانا ومعها كاميلا وديانا. سحبت الأولى كرسيًا وجلست أمامها، تلتها الأخريان.

"لماذا تجلسين وحدكِ، يا... ما كان اسمها مجددًا؟"

رفعت كاميلا حاجبها وكأنها تتظاهر بالتذكر:

"لورا؟ لا، ليس تمامًا..."

"آه، صحيح، باتسي لورا!"

ردّت لورا بابتسامة صغيرة، وكأنها لم تلاحظ السخرية في نبرتهن:

"أحب الجلوس في الزوايا، تعطيني رؤية أوضح للمكان."

كاميلا التفتت إلى طعام لورا، عينيها تضيقان ببطء:

"هل والدك من أعدّ لكِ شطيرتك؟"

"لا، اشتريتها في طريقي إلى هنا. لكن يمكنني أن أجلب لكم طعامًا من عنده إن أردتن!"

لمعت عينا جوليانا بمكر، وانحنت قليلًا للأمام وهي تستند بمرفقيها على الطاولة:

"صحيح، لم تخبرينا عن والدتك."

ديانا قاطعتها بابتسامة جانبية:

"دعيني أحزر... ربة منزل؟"

ابتسمت لورا بنفس البراءة المعتادة:

"لا، أمي توفيت منذ سنتين، لهذا هي لا تعمل."

لم يكن الخبر ما صدمهن، بل الطريقة التي قالته بها. بلا تردد، بلا تذمر، بلا حزن ظاهر. مجرد حقيقة أخرى ألقتها كما لو كانت تتحدث عن الطقس.

لم يعجب ذلك جوليانا، التي شعرت بانزعاج غريب من برود لورا. وكأنها أرادت أن ترى تأثيرًا مختلفًا، ضعفًا ما، أي شيء يجعلها تشعر بالتفوق.

بإيماءة سريعة، ضربت قارورة العصير الموضوعة على الطاولة. سقطت القارورة، وسُكب العصير على تنورة لورا، مخلّفًا بقعة واضحة على القماش الداكن.

شهقت كاميلا بصوت درامي:

"أوه، مسكينة، ماذا ستفعلين الآن؟"

تظاهرت جوليانا بالأسف، واضعة يدها على صدرها:

"أوه، لارا، لم أقصد ذلك!"

"لورا!" صححتها ماكيلا وهي تحاول كتم ضحكتها.

"آه، صحيح، لورا."

نظرت لورا إلى البقعة للحظات، ثم رفعت رأسها نحو جوليانا، لتجدها تترقب ردّ فعلها.

لكن، بدلاً من الغضب أو الاستياء، رفعت لورا كتفيها ببساطة وقالت:

"لا بأس، كان مجرد حادث."

تجمدت ابتسامة جوليانا في مكانها. لم تكن تتوقع هذا الرد.

ديانا تمتمت بسخرية:

"مجرد حادث، طبعًا..."

رنّ الجرس، فنهضت جوليانا بسرعة، تنفض يديها وكأنها تزيل شيئًا مزعجًا عنها:

"علينا الإسراع، لدينا صف الإنجليزية."

تبعها الجميع، تاركين لورا واقفة هناك، تتأمل تنورتها للحظة قبل أن تطلق تنهيدة خفيفة، ثم تتجه إلى الحمام لمحاولة تنظيفها.

في صف الإنجليزية...

وصلت متأخرة. كان الأستاذ توماسو، رجل في منتصف الأربعينات ذو ملامح صارمة، قد بدأ الدرس بالفعل. عندما فتحت الباب، توقف الحديث في الصف، والتفتت إليها الأنظار.

رفع الأستاذ حاجبه، صوته الجاف يملأ القاعة:

"أين كنتِ حتى الآن، آنسة...؟"

لمحت جوليانا وصديقاتها يتهامسن بين بعضهن، ترفّعت عن النظر إليهن، ثم توجهت إلى الأستاذ:

"آسفة يا سيدي، انسكب العصير على تنورتي، فاضطررت للمرور بالحمام لتنظيفها."

لم يتغير تعبير توماسو وهو يعقد ذراعيه:

"لست هنا لسماع أعذاركِ، آنسة... ما اسمك؟"

"باتسي لورا."

"جيد يا آنسة لورا، هذا سيؤثر على علاماتكِ. لا تتوقعي مني التساهل. والآن إلى مكانكِ."

أومأت، وسارت إلى مقعدها دون أن تنبت ببنت شفة. كانت بعض الهمسات والضحكات المكتومة تملأ القاعة، لكنها تجاهلتها، ألقت نظرة سريعة نحو النافذة، ثم ركّزت على دفترها، ترسم دوائر عشوائية في الهامش بينما يلقي الأستاذ محاضرته.

نهاية اليوم الأول...

عندما دقّ الجرس أخيرًا، كان الطلاب أشبه بطيور أفلتت من أقفاصها، خرجوا بسرعة، أصواتهم تملأ الممرات.

أما لورا، فجمعت أشيائها بروية، ثم نهضت، ألقت نظرة أخيرة على الصف، قبل أن تخرج، مستقبلة الهواء البارد الذي لفح وجهها بلطافة.

كان هذا مجرد يومها الأول، لكنها شعرت أن الأيام القادمة لن تكون هادئة كما تمنّت.

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon