بين الامواج والذاكرة
كان الممر الطويل مضاءً بمصابيح فلورسنت باهتة، تبعث ضوءًا شاحبًا يكاد لا يكفي لطرد الظلال التي تتسلل من الزوايا. في نهاية الممر، وقف رجل يرتدي معطفًا أبيض نظيفًا، يمسك بملفٍ سميك بين يديه. شعره الأسود المتموج كان يلمع تحت الضوء الخافت، بينما كانت عيناه الحادتان تتجولان بين الصفحات بتركيز، وكأنه يحاول أن يفك شفرة سرٍّ غامض.
الممرضة **سوفيا**، التي كانت تقف بجانبه، نظرت إليه باهتمام. كانت تحمل دفترًا صغيرًا في يدها، وكأنها مستعدة دائمًا لتسجيل أي ملاحظة. صوتها كان هادئًا عندما كسرت الصمت:
"دكتور... لوكا، أعتقد أنك يجب أن تبدأ بغرفة ١٣."
رفع الرجل نظره من الملف، وحدق في الممرضة باهتمام. كان هذا هو الدكتور **لوكا**، الطبيب الجديد الذي وصل إلى المشفى منذ أيام قليلة فقط. عيناه كانتا تعكسان ذكاءً وحزمًا، لكنهما تحملان أيضًا شيئًا من اللطف، كأنه يعلم أن هذا المكان يحتاج إلى أكثر من مجرد علاج طبي.
"ماذا تعنين بأنها لا تتحرك؟ هل هي في حالة غيبوبة؟" سأل الدكتور لوكا، وهو يحاول أن يتخيل الوضع.
**سوفيا** هزت رأسها ببطء. "لا، ليست غيبوبة. هي مستيقظة، لكنها... وكأنها غير موجودة. لا تتفاعل مع أي شيء، لا مع الأصوات، ولا مع الأشخاص. فقط تحدق في الفراغ. حتى الطعام... نحن نطعمها، لكنها لا تبدو وكأنها تشعر بأي شيء."
"كم من الوقت وهي على هذا الحال؟" سأل الدكتور لوكا، وهو يحاول أن يستوعب الوضع.
"منذ أن وصلت هنا، منذ خمس سنوات على الأقل"، أجابت **سوفيا** بصوت خافت، وكأنها تخشى أن تسمعها الجدران. "لا أحد يعرف ما الذي حدث لها. الملف الطبي فارغ تقريبًا، فقط اسمها مكتوب: 'إيزابيلا'. لكن حتى هذا قد لا يكون اسمها الحقيقي."
"إيزابيلا..." همس الدكتور لوكا، وكأنه يحاول أن يستوعب السر الذي تحمله هذه الكلمة. "هل حاول أحد أن يتحدث معها؟ أن يعرف قصتها؟"
**سوفيا** أومأت برأسها، لكن نظراتها كانت تحمل شيئًا من اليأس. "الكثيرون حاولوا، لكنها لا ترد. هي فقط... هناك، لكنها ليست معنا."
فتح الدكتور لوكا باب الغرفة ببطء، وكأنه يخشى أن يزعج السكون الثقيل الذي يلف المكان. الغرفة كانت صغيرة، مضاءة بمصباح واحد يتدلى من السقف، يلقي بضوء خافت على الجدران البالية. الهواء بدا راكدًا، وكأنه لم يتجدد منذ سنوات.
في وسط الغرفة، كانت تجلس على سرير خشبي بسيط، ظهرها مستند إلى الحائط، يداها مرتخيتان على جانبيها. كانت **إيزابيلا**.
توقف الدكتور لوكا عند الباب للحظة، وكأنه يحاول أن يستوعب ما يراه. كانت تشبه تمثالًا من الشمع، جامدًا، بلا حياة، إلا للعينين. عيناها كانتا مفتوحتين على مصراعيهما، لكنهما لا ترى. كانت تحدق في الفراغ، نظرة ثابتة، عميقة، وكأنها تخترق حاجز الزمان والمكان. لا رمش، لا اهتزاز، فقط نظرة جامدة تثير الرعب والشفقة في آن واحد.
شعر لوكا بشيء من القشعريرة يمر عبر جسده. كان يعلم أن هذه الحالة ستكون تحديًا كبيرًا له، لكنه شعر أيضًا بشيء من الفضول والرغبة في معرفة الحقيقة. تقدم بخطوات بطيئة نحوها، وكأنه يخشى أن يكسر السحر الذي يلفها.
"إيزابيلا..." همس بصوت خافت، وكأنه يحاول أن يصل إليها من خلال هذا الاسم. لكنها لم ترد، لم تتحرك، فقط استمرت في التحديق في الفراغ.
جلس لوكا على الكرسي الصغير بجانب السرير، وهو يحاول أن يفهم ما الذي يمكن أن يجعل إنسانًا يصل إلى هذه الحالة. نظر إلى يديها المرتخيتين، ثم إلى عينيها الفارغتين، وكأنه يبحث عن أي علامة على الحياة بداخلها.
"ما الذي حدث لكِ؟" سأل بصوت يكاد يكون همسة، وكأنه يتحدث إلى نفسه أكثر منها.
لكن الغرفة بقيت صامتة، والصمت يلفها كغطاء ثقيل. حتى الهواء بدا وكأنه توقف عن الحركة حولها، وكأن العالم بأكمله توقف ليراقب هذه المرأة التي فقدت كل شيء، حتى الرغبة في الحركة
شعر لوكا بشيء من الإحباط، لكنه أيضًا شعر بتحدٍ جديد. كان يعلم أن هذه الحالة ستكون أصعب ما واجهه في حياته المهنية، لكنه كان مصممًا على أن يفهم، أن يعرف ما الذي جعلها تصل إلى هذا الحال. "سأعود غدًا"، قال لنفسه، وهو ينهض من الكرسي ببطء. "سأعود غدًا، وسأحاول مرة أخرى."
مر أسبوع منذ أن دخل الدكتور لوكا غرفة إيزابيلا لأول مرة. خلال هذه الأيام السبعة، كان يزورها مرتين يوميًا، يحاول بكل الطرق أن يصل إليها، أن يلمس شيئًا بداخلها. كان يأتي كل صباح بباقة زهور صغيرة، يضعها على الطاولة الصغيرة بجانب سريرها. الزهور كانت متنوعة: زنابق بيضاء، ورد أحمر، نرجس أصفر... كل يوم لون مختلف، وكأنه يحاول أن يضيف لمسة من الحياة إلى غرفتها الباهتة.
"إيزابيلا، اليوم أحضرت لكِ زنابق"، كان يقول بصوت هادئ، وكأنه يتحدث إلى طفل خائف. "إنها بيضاء، مثل الثلج. أتذكرين الثلج؟"
لكنها لم ترد، لم تتحرك، فقط استمرت في التحديق في الفراغ.
في بعض الأحيان، كان يجلب معه كتبًا متنوعة، ويجلس بجانبها، يقرأ بصوت عالٍ. كانت الكتب تتنوع بين القصص الكلاسيكية والروايات الحديثة، وكأنه يحاول أن يجد شيئًا، أي شيء، قد يلمسها. كان صوته يتردد في الغرفة، لكنه يبدو وكأنه يضيع في الفراغ الذي يحيط بها.
لكنها لم ترد، لم تتحرك، فقط استمرت في التحديق في الفراغ.
في أحد الأيام، قرر أن يأخذها إلى الحديقة الصغيرة في المشفى. كان يعلم أن الهواء النقي وأشعة الشمس قد يفعلان شيئًا، أي شيء. مع الممرضة سوفيا، ساعدها على الجلوس على كرسي متحرك، ودفعها ببطء عبر الممرات الضيقة حتى وصلوا إلى الحديقة.
"انظري، إيزابيلا، السماء زرقاء اليوم"، قال وهو يشير إلى الأعلى. "والأشجار... أتذكرين رائحة الأشجار؟"
لكنها لم ترد، لم تتحرك، فقط استمرت في التحديق في الفراغ.
Comments