كان الممر الطويل مضاءً بمصابيح فلورسنت باهتة، تبعث ضوءًا شاحبًا يكاد لا يكفي لطرد الظلال التي تتسلل من الزوايا. في نهاية الممر، وقف رجل يرتدي معطفًا أبيض نظيفًا، يمسك بملفٍ سميك بين يديه. شعره الأسود المتموج كان يلمع تحت الضوء الخافت، بينما كانت عيناه الحادتان تتجولان بين الصفحات بتركيز، وكأنه يحاول أن يفك شفرة سرٍّ غامض.
الممرضة **سوفيا**، التي كانت تقف بجانبه، نظرت إليه باهتمام. كانت تحمل دفترًا صغيرًا في يدها، وكأنها مستعدة دائمًا لتسجيل أي ملاحظة. صوتها كان هادئًا عندما كسرت الصمت:
"دكتور... لوكا، أعتقد أنك يجب أن تبدأ بغرفة ١٣."
رفع الرجل نظره من الملف، وحدق في الممرضة باهتمام. كان هذا هو الدكتور **لوكا**، الطبيب الجديد الذي وصل إلى المشفى منذ أيام قليلة فقط. عيناه كانتا تعكسان ذكاءً وحزمًا، لكنهما تحملان أيضًا شيئًا من اللطف، كأنه يعلم أن هذا المكان يحتاج إلى أكثر من مجرد علاج طبي.
"ماذا تعنين بأنها لا تتحرك؟ هل هي في حالة غيبوبة؟" سأل الدكتور لوكا، وهو يحاول أن يتخيل الوضع.
**سوفيا** هزت رأسها ببطء. "لا، ليست غيبوبة. هي مستيقظة، لكنها... وكأنها غير موجودة. لا تتفاعل مع أي شيء، لا مع الأصوات، ولا مع الأشخاص. فقط تحدق في الفراغ. حتى الطعام... نحن نطعمها، لكنها لا تبدو وكأنها تشعر بأي شيء."
"كم من الوقت وهي على هذا الحال؟" سأل الدكتور لوكا، وهو يحاول أن يستوعب الوضع.
"منذ أن وصلت هنا، منذ خمس سنوات على الأقل"، أجابت **سوفيا** بصوت خافت، وكأنها تخشى أن تسمعها الجدران. "لا أحد يعرف ما الذي حدث لها. الملف الطبي فارغ تقريبًا، فقط اسمها مكتوب: 'إيزابيلا'. لكن حتى هذا قد لا يكون اسمها الحقيقي."
"إيزابيلا..." همس الدكتور لوكا، وكأنه يحاول أن يستوعب السر الذي تحمله هذه الكلمة. "هل حاول أحد أن يتحدث معها؟ أن يعرف قصتها؟"
**سوفيا** أومأت برأسها، لكن نظراتها كانت تحمل شيئًا من اليأس. "الكثيرون حاولوا، لكنها لا ترد. هي فقط... هناك، لكنها ليست معنا."
فتح الدكتور لوكا باب الغرفة ببطء، وكأنه يخشى أن يزعج السكون الثقيل الذي يلف المكان. الغرفة كانت صغيرة، مضاءة بمصباح واحد يتدلى من السقف، يلقي بضوء خافت على الجدران البالية. الهواء بدا راكدًا، وكأنه لم يتجدد منذ سنوات.
في وسط الغرفة، كانت تجلس على سرير خشبي بسيط، ظهرها مستند إلى الحائط، يداها مرتخيتان على جانبيها. كانت **إيزابيلا**.
توقف الدكتور لوكا عند الباب للحظة، وكأنه يحاول أن يستوعب ما يراه. كانت تشبه تمثالًا من الشمع، جامدًا، بلا حياة، إلا للعينين. عيناها كانتا مفتوحتين على مصراعيهما، لكنهما لا ترى. كانت تحدق في الفراغ، نظرة ثابتة، عميقة، وكأنها تخترق حاجز الزمان والمكان. لا رمش، لا اهتزاز، فقط نظرة جامدة تثير الرعب والشفقة في آن واحد.
شعر لوكا بشيء من القشعريرة يمر عبر جسده. كان يعلم أن هذه الحالة ستكون تحديًا كبيرًا له، لكنه شعر أيضًا بشيء من الفضول والرغبة في معرفة الحقيقة. تقدم بخطوات بطيئة نحوها، وكأنه يخشى أن يكسر السحر الذي يلفها.
"إيزابيلا..." همس بصوت خافت، وكأنه يحاول أن يصل إليها من خلال هذا الاسم. لكنها لم ترد، لم تتحرك، فقط استمرت في التحديق في الفراغ.
جلس لوكا على الكرسي الصغير بجانب السرير، وهو يحاول أن يفهم ما الذي يمكن أن يجعل إنسانًا يصل إلى هذه الحالة. نظر إلى يديها المرتخيتين، ثم إلى عينيها الفارغتين، وكأنه يبحث عن أي علامة على الحياة بداخلها.
"ما الذي حدث لكِ؟" سأل بصوت يكاد يكون همسة، وكأنه يتحدث إلى نفسه أكثر منها.
لكن الغرفة بقيت صامتة، والصمت يلفها كغطاء ثقيل. حتى الهواء بدا وكأنه توقف عن الحركة حولها، وكأن العالم بأكمله توقف ليراقب هذه المرأة التي فقدت كل شيء، حتى الرغبة في الحركة
شعر لوكا بشيء من الإحباط، لكنه أيضًا شعر بتحدٍ جديد. كان يعلم أن هذه الحالة ستكون أصعب ما واجهه في حياته المهنية، لكنه كان مصممًا على أن يفهم، أن يعرف ما الذي جعلها تصل إلى هذا الحال. "سأعود غدًا"، قال لنفسه، وهو ينهض من الكرسي ببطء. "سأعود غدًا، وسأحاول مرة أخرى."
مر أسبوع منذ أن دخل الدكتور لوكا غرفة إيزابيلا لأول مرة. خلال هذه الأيام السبعة، كان يزورها مرتين يوميًا، يحاول بكل الطرق أن يصل إليها، أن يلمس شيئًا بداخلها. كان يأتي كل صباح بباقة زهور صغيرة، يضعها على الطاولة الصغيرة بجانب سريرها. الزهور كانت متنوعة: زنابق بيضاء، ورد أحمر، نرجس أصفر... كل يوم لون مختلف، وكأنه يحاول أن يضيف لمسة من الحياة إلى غرفتها الباهتة.
"إيزابيلا، اليوم أحضرت لكِ زنابق"، كان يقول بصوت هادئ، وكأنه يتحدث إلى طفل خائف. "إنها بيضاء، مثل الثلج. أتذكرين الثلج؟"
لكنها لم ترد، لم تتحرك، فقط استمرت في التحديق في الفراغ.
في بعض الأحيان، كان يجلب معه كتبًا متنوعة، ويجلس بجانبها، يقرأ بصوت عالٍ. كانت الكتب تتنوع بين القصص الكلاسيكية والروايات الحديثة، وكأنه يحاول أن يجد شيئًا، أي شيء، قد يلمسها. كان صوته يتردد في الغرفة، لكنه يبدو وكأنه يضيع في الفراغ الذي يحيط بها.
لكنها لم ترد، لم تتحرك، فقط استمرت في التحديق في الفراغ.
في أحد الأيام، قرر أن يأخذها إلى الحديقة الصغيرة في المشفى. كان يعلم أن الهواء النقي وأشعة الشمس قد يفعلان شيئًا، أي شيء. مع الممرضة سوفيا، ساعدها على الجلوس على كرسي متحرك، ودفعها ببطء عبر الممرات الضيقة حتى وصلوا إلى الحديقة.
"انظري، إيزابيلا، السماء زرقاء اليوم"، قال وهو يشير إلى الأعلى. "والأشجار... أتذكرين رائحة الأشجار؟"
لكنها لم ترد، لم تتحرك، فقط استمرت في التحديق في الفراغ.
مر شهر كامل منذ أن بدأ الدكتور لوكا زياراته اليومية لإيزابيلا. خلال هذا الشهر، جرب كل ما يمكن أن يخطر على باله: الزهور، الكتب، الموسيقى الهادئة، وحتى محاولات التحدث عن ذكريات الطفولة أو الطبيعة. لكنها ظلت كما هي، جامدة، تحدق في الفراغ.
في أحد الأيام، قرر أن يجرب شيئًا مختلفًا. أحضر معه أدوات رسم: دفترًا جديدًا، وأقلام رصاص، وألوانًا مائية. وضعها على الطاولة بجانب سريرها، ثم جلس بجانبها، كما اعتاد أن يفعل.
"إيزابيلا، اليوم أحضرت لكِ شيئًا جديدًا"، قال بصوت هادئ، وهو يفتح دفتر الرسم ويضع الأقلام بجانبها. "ربما يمكنكِ أن ترسمي شيئًا... أي شيء."
لم تتوقع أن يحدث شيء مختلف. لكنه لاحظ شيئًا غريبًا. عندما وضع الأدوات أمامها، بدت عيناها وكأنها تلمعان للحظة، وكأن شيئًا ما بداخلها استجاب. كانت النظرة خاطفة، لكنها كانت كافية لجعله يتوقف وينتبه.
ببطء، وبعد دقائق من الصمت، تحركت يدها. كانت الحركة بطيئة، وكأنها تقاوم، لكنها في النهاية مدت يدها نحو القلم. لوكا كاد أن يمسك بأنفاسه من شدة التركيز. كانت هذه أول مرة يراها تتفاعل مع شيء منذ أن بدأ زياراته.
أمسكت بالقلم، وبعد تردد طفيف، بدأت ترسم. خطوطها كانت غير واضحة في البداية، لكنها سرعان ما اتخذت شكلًا. كانت ترسم البحر... أمواجًا تتصادم، سماءً زرقاء، وشاطئًا بعيدًا. الرسمة كانت بسيطة، لكنها حملت في طياتها شيئًا من الحياة.
لوكا كان يشاهد بذهول، وكأنه يشهد معجزة. "إيزابيلا... هذا جميل"، همس بصوت خافت، وكأنه يخشى أن يكسر اللحظة.
لكنها لم ترد، فقط استمرت في الرسم، وكأنها تعبر عن شيء لم تستطع قوله بالكلمات.
بعد أن انتهت من الرسمة، نظر لوكا إليها لفترة طويلة. كان يشعر أن هذه الرسمة تحمل رسالة، ربما كانت إيزابيلا تحاول أن تخبره بشيء. قرر في تلك اللحظة أن يأخذها إلى البحر. ربما كان المكان الذي رسمته هو المكان الذي تحتاج أن تكون فيه.
"سوفيا"، قال للممرضة عندما خرج من الغرفة، "أريد أن آخذ إيزابيلا إلى البحر. أعتقد أن هذا قد يساعدها."
سوفيا نظرت إليه بدهشة، لكنها أومأت برأسها. "إذا كنت تعتقد أن هذا سيفيدها، فأنا أوافق. لكن كن حذرًا، لا نعرف كيف ستتفاعل."
في اليوم التالي، جهز لوكا سيارة خاصة، وساعد إيزابيلا على الجلوس في المقعد الخلفي. كانت هادئة كالعادة، لكنه لاحظ أنها كانت تحمل دفتر الرسم بين يديها، وكأنها لا تريد أن تفارقه.
عندما وصلوا إلى الشاطئ، كان الجو هادئًا، والأمواج تتصادم بلطف مع الرمال. لوكا دفع كرسيها المتحرك حتى وصلوا إلى مكان قريب من الماء. "انظري، إيزابيلا، هذا هو البحر"، قال بصوت هادئ، وهو يشير إلى الأفق.
لكن هذه المرة، بدا وكأن شيئًا ما تغير. عيناها كانتا تنظران إلى الأمواج، وكأنها ترى شيئًا لم تره منذ زمن طويل. كانت هناك لمعة في عينيها، وكأنها بدأت تتذكر.
كان الجو صيفيًا دافئًا، ونسيم البحر الخفيف يلطف من حرارة الشمس. لوكا جلس على كرسي بجانب إيزابيلا، التي كانت لا تزال تحدق في الأمواج بعينين واسعتين. كان يحاول أن يتحدث معها، كما فعل مرات عديدة من قبل.
"إيزابيلا، البحر جميل اليوم، أليس كذلك؟" قال بصوت هادئ، وكأنه يحاول أن يصل إليها من خلال وصف المشهد من حولها. "الأمواج تبدو وكأنها ترسم لوحة على الرمال."
لكنها لم ترد، فقط استمرت في التحديق في الأفق، وكأنها في عالم آخر.
لوكا تنهد، لكنه لم يفقد الأمل. "أحيانًا، البحر يجعلنا نشعر بالراحة، كما لو كان يحمل كل همومنا بعيدًا مع الأمواج."
لكنها لم ترد، فقط استمرت في التحديق في الفراغ.
بعد عدة محاولات فاشلة، قرر لوكا أن يتركها لبعض الوقت. ربما كانت تحتاج إلى بعض الهدوء بمفردها. "سأذهب لأحضر لكِ بعض المثلجات"، قال وهو ينهض من كرسيه. "ربما ستستمتعين بها."
تركها على الكرسي المتحرك تحت مظلة صغيرة، مع دفتر الرسم الذي كانت تحمله بين يديها. الأمواج كانت تتصادم بلطف مع الشاطئ، وصوتها كان الوحيد الذي يملأ الجو.
بعد أن ابتعد لوكا، بقيت إيزابيلا جالسة بمفردها، تحدق في البحر. عيناها كانتا تتبعان حركة الأمواج، وكأنها تبحث عن شيء ما في الأفق. يدها كانت تمسك دفتر الرسم، وكأنها تحاول أن تحتفظ به كأنه كنز.
في تلك اللحظة، بدا وكأن شيئًا ما بداخلها يتحرك. كانت هناك لمعة خفيفة في عينيها، وكأنها تتذكر شيئًا ما. ربما كانت ذكريات من ماضيها، أو ربما كانت مشاعر بدأت تظهر بعد سنوات من الاختباء
عاد لوكا حاملًا المثلجات بيديه، وهو يتطلع إلى إيزابيلا من بعيد. لكن عندما اقترب من المكان الذي تركها فيه، وجد الكرسي المتحرك فارغًا. المظلة كانت لا تزال مفتوحة، ودفتر الرسم ملقى على الرمال، لكن إيزابيلا لم تكن هناك.
توقف فجأة، وكأن الأرض اهتزت تحت قدميه. "إيزابيلا؟" نادى بصوت مرتفع بعض الشيء، لكنه لم يتلقَ أي رد.
شعر بشيء غريب في صدره، كأن قلبه يخبره أن شيئًا ما ليس على ما يرام. المثلجات سقطت من يده على الرمال، لكنه لم يكترث. بدأ ينظر حوله بقلق، ثم أسرع نحو الشاطئ، وهو يناديها مرة أخرى: "إيزابيلا! أين أنتِ؟"
كل خطوة كان يخطوها كانت تزيد من قلقه. بدأ يشعر وكأن الوقت يتباطأ، وكل ثانية تمر كانت تزيد من خوفه. "لا، هذا لا يمكن أن يحدث"، همس لنفسه، وهو يبحث بين الناس على الشاطئ. "أين ذهبتِ؟"
كان قلبه ينبض بسرعة، وكأنه على وشك الانفجار. كل سيناريو سيء ممكن بدأ يمر بذهنه: ماذا لو سقطت في الماء؟ ماذا لو اختفت إلى الأبد؟ ماذا لو كانت في خطر؟
"إيزابيلا!" نادى مرة أخرى، وصوته كان يكاد يختنق بالقلق. بدأ يشعر وكأنه على وشك الجنون. كلما طال الوقت ولم يجدها، زاد شعوره بالعجز.
ركض نحو الماء، وهو يبحث بين الأمواج. "هل رأى أحد امرأة هنا؟" سأل الناس على الشاطئ، لكن الجميع هزوا رؤوسهم، وكأنها اختفت دون أن يلاحظها أحد.
ثم تذكر دفتر الرسم. عاد مسرعًا إلى المكان الذي تركها فيه، والتقط الدفتر. ربما كان هناك شيء بداخله قد يعطيه فكرة عن أين ذهبت. فتحه بيد مرتعشة، لكنه لم يجد سوى الرسمة التي رسمتها للبحر.
بعد بحث طويل ومضني، لاحظ لوكا من بعيد ظلًا نحيلًا يتجه نحو البحر. كان الشعر الأسود الطويل يتطاير مع الريح، والثوب الأبيض الذي ترتديه إيزابيلا يلمع تحت أشعة الشمس الغاربة. كانت تخطو ببطء نحو الماء، وكأنها تسير في عالم آخر.
"إيزابيلا!" صرخ بأعلى صوته، وهو يركض نحوها.
لكنها لم ترد، فقط استمرت في التقدم نحو الماء. كانت عيناها فارغتين، كما لو أنها لا تشعر بالماء الذي بدأ يبتل ثوبها. الأمواج كانت تلامس قدميها، ثم ركبتيها، ثم خصرها... لكنها لم تتوقف.
لوكا شعر بشيء سيء يضغط على صدره. لم يكن هناك وقت ليضيعه. خلع حذاءه بسرعة وركض نحو الماء، وهو يحدق في إيزابيلا التي كانت تغرق ببطء.
الأمواج كانت قوية، لكنه لم يكترث. كان يعلم أنه يجب أن يصل إليها قبل فوات الأوان. سبح بكل قوته، وهو يحاول أن يمسك بيدها. "فقط قليلا!" همس بداخله وهو يقترب منها
أخيرًا، استطاع أن يمسك بيدها. كانت باردة، وكأن الحياة قد بدأت تتركها. حاول أن يسحبها نحو الشاطئ، لكن الأمواج كانت تعوقه. "تمسكي بي!" صرخ، وهو يحاول أن يبقي رأسها فوق الماء.
بعد صراع مرهق، استطاع أخيرًا أن يخرجها من الماء. كانت فاقدة للوعي، وشعرها الأسود الطويل كان يلتصق بوجهها الشاحب. لوكا وضعها على الرمال برفق، وهو يحاول أن يستعيد أنفاسه.
كان ضوء النهار الخافت يتسلل من خلال الستائر المغلقة جزئيًا، مُلقيًا بظلال رمادية على جدران الغرفة. إيزابيلا كانت لا تزال مُستلقية على السرير، شاحبة كالشمع، أنبوب التنفس يعلو صدرها الذي يرتفع وينخفض بانضباط آلي. لوكا جالس على الكرسي البلاستيكي القاسي بجانبها، عيناه محمرتان من السهر، ويداه ترتعشان كلما حاول أن يمسك بيدها الباردة. لم ينم منذ أيام، ولم يأكل إلا ما يُبقيه واقفًا على قدميه. كل ما يريده هو أن تفتح عينيها.
"دكتور لوكا..."
الممرضة سوفيا دخلت الغرفة بهدوء، تحمل معها حقنة ومحاليل جديدة. نظرت إليه بنظرة شفقة وهو يحدق في إيزابيلا كأنه يتوسل إليها بصمت. "عليك أن ترتاح قليلًا، هذا ليس ذنبك."
لكنه لم يلتفت إليها. أصابعه تشبثت بذراع الكرسي حتى ابيضت مفاصله. "لو لم آخذها إلى البحر..." همس بصوت أجش، كأنه يحاكم نفسه.
الممرضة هزت رأسها بينما كانت تفحص مؤشرات الجهاز الطبي. "لا يمكنك أن تلوم نفسك. لم يكن أحد ليتوقع هذا."
لكن كلماتها ضاعت في الهواء. لوكا كان يسمع فقط صوت الجهاز الطبي: *بيب... بيب... بيب...*. كل "بيبة" كانت تذكرّه بأن الوقت يمر، وأن إيزابيلا تبتعد أكثر.
عندما انتهت الممرضة من تغيير المحاليل، تركت كوب قهوة بجانبه على الطاولة الصغيرة. الرائحة المرّة انتشرت في الغرفة، لكنه لم يلمسها. عيناه كانتا مثبتتين على إيزابيلا، على تلك العروق الزرقاء الرفيعة التي تظهر تحت جلدها الشفاف، وكأنها خريطة لحياة لم تعشها بعد.
في داخله، كان الإحساس بالذنب مثل سكين ساخن يغرز في قلبه. تذكر كل التفاصيل: كيف أصرّ على أخذها إلى البحر، كيف ابتسم لها وهو يدفع كرسيها المتحرك، وكيف ظنّ للحظة أنها نظرت إليه عندما لامست أمواج البحر قدميها. لكنها لم تكن قد نظرت إليه. كانت النظرة فارغة كالعادة، لكنه خدع نفسه ليصدق أن هناك ومضة أمل.
الآن، كل ما تبقى هو جسدها الهش على السرير، وتلك العينان المغلقتان اللتان ترفضان أن ترياه. حتى في غيبوبتها، كانت تُعاقبه.
بينمى ينظر لوكا لايزابيلا تذكر لقائه الاول بها
كان الخريف يلف المشفى بأوراقه الذابلة، والسماء رمادية كوجه طفل حزين. \*\*لوكا\*\*، بمعطفه الأبيض الجديد، كان يسير خلف الممرضة \*\*سوفيا\*\* في جولة تعريفية بأقسام المشفى. لكن نظراته كانت تتسلل نحو النافذة المطلة على الحديقة... حيث كانت \*\*إيزابيلا\*\* تجلس على كرسيها المتحرك، ظهرها منحنٍ كغصن شجرة مكسور، وعيناها تحدقان في فراغ لا يراه أحد سواها.
"هذا قسم الأمراض النفسية المزمنة"، قالت سوفيا وهي تشير إلى المبنى القديم.
لكنه لم يسمعها.
شيء ما في طريقة جلوس إيزابيلا جعله يتوقف. كانت تشبه \*\*تمثالًا من الرماد\*\*... وكأنها ستختفي إذا لمسها نسيم.
عندما غادرت سوفيا للرد على مكالمة طارئة، تبقى لوكا في الحديقة.
اقترب من إيزابيلا بخطوات بطيئة، وكأنه يقترب من حيوان بري جريح.
"أهلا... أنا دكتور لوكا"، همس وهو يجلس على مقعد حجري أمامها.
لم ترفع رأسها، لكنه لاحظ أن أصابعها ارتعشت على ذراع الكرسي.
\*"إنها تسمعني"\*، تأكد في داخله.
منذ تلك اللحظة، أصبحت إيزابيلا مشروعه السري...
بعدما مر شهر تقريبا من معرفته لايزابيلا
، قرر لوكا أن يطلب نقلها إلى عيادته الخاصة.
"لكنها تحت إشراف الدكتور ماركو منذ سنوات"، احتجت سوفيا.
"أنا سأتحمل المسؤولية"، أجاب بلهجة لم تعرفها منه من قبل.
حتى الدكتور ماركو نفسه لم يستطع مقاومة إصرار لوكا. "هي حالة ميؤوس منها... لا تضيع وقتك"، قال له.
لكن \*\*"اليأس"\*\* بالنسبة للوكا كان مجرد كلمة... أما إيزابيلا فكانت عالمًا يجب فك شفرته.
كل صباح، كان يفتح نوافذ غرفتها ليسمح لأشعة الشمس بالدخول.
كل مساء، كان يقرأ لها قصائد من كتابه القديم عن البحر.
وفي كل مرة يهمس باسمها: \*\*"إيزابيلا..."\*\*، كان يتخيل أنها تتنهد بصمت.
مرة، وضع وردة حمراء على طاولتها... وفي اليوم التالي، وجدها في مكانها لم تتغير .
\*"لم تلمسها حتى"\*، فكر بمرارة.
لكن هذا لم يوقفه... بل زاده تعلقًا.
في أحد الأيام، بينما كان يربط حذاءها المنسلِق، سمعها تتنهد.
التفت بسرعة... لكنها كانت لا تحدق في الفراغ كالعادة.
"إيزابيلا... هل سمعتكِ؟" همس، قلبه يدق كطبول الحرب.
لكنها عادت إلى صمتها.
مع ذلك، كان ذلك كافيًا ليبدأ في ترديد اسمها كل صباح:
"إيزابيلا، اليوم الجو جميل..."
"إيزابيلا، هذه الفراشة زرقاء مثل عينيكِ..."
"إيزابيلا..."
لم تكن \*\*والدة لوكا\*\* تعرف ابنها منذ سنوات. منذ وفاة والده، تحوّل إلى رجل جاد، بارد المشاعر، يعيش مع كتبه الطبية. لكن في الأسابيع الأخيرة، لاحظت شيئًا مختلفًا:
\- عيناه تلمعان عندما يعود من العمل.
\- صوته يرتفع وهو يروي لها عن "مريضة خاصة".
\- حتى طريقة مشيته أصبحت أخف.
"من هي هذه الفتاة التي تُعيدك إلى الحياة؟" سألته ذات مساء بينما كان يشرب الشاي.
"إنها... حالة طبية"، أجاب محاولًا إخفاء ابتسامته.
لكن الأم تعرف ابنها: "أخيرًا وجدت قلبك يا ولدي".
بدأ لوكا يفعل أشياء لم يتخيلها يومًا:
يغني لها أغاني قديمة سمعها من والدته.
يربط خصلات شعرها برباط حريري أزرق كل صباح. يقرأ لها كتب متنوعه من رويات لكتب طبيه مملة
فقط اراد ان تبدي ردة فعل ما
في الليلة التي سبقت حادثة البحر، وقف أمام مرآة الحمام، يردد اسمها كتعويذة:
"إيزابيلا... إيزابيلا..."
كان يتخيل أنها تهمس به من بعيد:
"لوكا..."
مجرد تخيل صوتها ينادي اسمه جعله يبتسم كمراهق.
"لو نطقتِ اسمي مرة واحدة... سأعطيك كل النجوم في السماء".
شعر كانه سيصبح مجنون لكنه احب هذا الجنون اخير شعر ان الحياه تستحق العيش
حتى لو لم ترد عليه إيزابيلا، كان لوكا يشعر أنها \*\*أهدته شيئًا ثمينًا\*\*:
الرغبة في الاستيقاظ باكرًا.
الفرح الغامر عندما ترتعش جفونها أثناء قراءته.
الدفء الذي ملأ قلبة.
كانت إيزابيلا... \*\*العبوة التي فجّرت مشاعره المدفونة\*\*.
كان ضوء الصباح البارد يتسلل عبر ستائر غرفة المستشفى، مُلقيًا ظلالًا ذهبية على وجه إيزابيلا الشاحب. لوكا، الذي نام على كرسي بلاستيكي بجانبها لليلة الثالثة على التوالي، استيقظ على صوت همسة خافتة:
"م... مَن أنت؟".
قفز من مكانه، قلبه يكاد يخرج من صدره. إيزابيلا كانت تنظر إليه بعينين واسعتين... عينين لم تعدا فارغتين، بل مليئتين بالحياة والارتباك.
عينيها الزرقاوين تلتقيان بنظره. قفز من مكانه، الكرسي سقط على الأرض بضجة، لكنه لم يسمع شيئًا سوى دقات قلبه.
"إيزابيلا...!" انحنى فوقها، يداه ترتجفان، دموعه تسقط على وجنتيها الشاحبتين. احتضنها بقوة، كأنه يخشى أن تختفي لو أفلتها. "لقد استيقضت .. أخيرًا!"
لكن جسدها بقي جامدًا. ثم، بصوتٍ أجش كأنه يخرج من قبر:
"مَن... مَن أنت؟".
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon