مر شهر كامل منذ أن بدأ الدكتور لوكا زياراته اليومية لإيزابيلا. خلال هذا الشهر، جرب كل ما يمكن أن يخطر على باله: الزهور، الكتب، الموسيقى الهادئة، وحتى محاولات التحدث عن ذكريات الطفولة أو الطبيعة. لكنها ظلت كما هي، جامدة، تحدق في الفراغ.
في أحد الأيام، قرر أن يجرب شيئًا مختلفًا. أحضر معه أدوات رسم: دفترًا جديدًا، وأقلام رصاص، وألوانًا مائية. وضعها على الطاولة بجانب سريرها، ثم جلس بجانبها، كما اعتاد أن يفعل.
"إيزابيلا، اليوم أحضرت لكِ شيئًا جديدًا"، قال بصوت هادئ، وهو يفتح دفتر الرسم ويضع الأقلام بجانبها. "ربما يمكنكِ أن ترسمي شيئًا... أي شيء."
لم تتوقع أن يحدث شيء مختلف. لكنه لاحظ شيئًا غريبًا. عندما وضع الأدوات أمامها، بدت عيناها وكأنها تلمعان للحظة، وكأن شيئًا ما بداخلها استجاب. كانت النظرة خاطفة، لكنها كانت كافية لجعله يتوقف وينتبه.
ببطء، وبعد دقائق من الصمت، تحركت يدها. كانت الحركة بطيئة، وكأنها تقاوم، لكنها في النهاية مدت يدها نحو القلم. لوكا كاد أن يمسك بأنفاسه من شدة التركيز. كانت هذه أول مرة يراها تتفاعل مع شيء منذ أن بدأ زياراته.
أمسكت بالقلم، وبعد تردد طفيف، بدأت ترسم. خطوطها كانت غير واضحة في البداية، لكنها سرعان ما اتخذت شكلًا. كانت ترسم البحر... أمواجًا تتصادم، سماءً زرقاء، وشاطئًا بعيدًا. الرسمة كانت بسيطة، لكنها حملت في طياتها شيئًا من الحياة.
لوكا كان يشاهد بذهول، وكأنه يشهد معجزة. "إيزابيلا... هذا جميل"، همس بصوت خافت، وكأنه يخشى أن يكسر اللحظة.
لكنها لم ترد، فقط استمرت في الرسم، وكأنها تعبر عن شيء لم تستطع قوله بالكلمات.
بعد أن انتهت من الرسمة، نظر لوكا إليها لفترة طويلة. كان يشعر أن هذه الرسمة تحمل رسالة، ربما كانت إيزابيلا تحاول أن تخبره بشيء. قرر في تلك اللحظة أن يأخذها إلى البحر. ربما كان المكان الذي رسمته هو المكان الذي تحتاج أن تكون فيه.
"سوفيا"، قال للممرضة عندما خرج من الغرفة، "أريد أن آخذ إيزابيلا إلى البحر. أعتقد أن هذا قد يساعدها."
سوفيا نظرت إليه بدهشة، لكنها أومأت برأسها. "إذا كنت تعتقد أن هذا سيفيدها، فأنا أوافق. لكن كن حذرًا، لا نعرف كيف ستتفاعل."
في اليوم التالي، جهز لوكا سيارة خاصة، وساعد إيزابيلا على الجلوس في المقعد الخلفي. كانت هادئة كالعادة، لكنه لاحظ أنها كانت تحمل دفتر الرسم بين يديها، وكأنها لا تريد أن تفارقه.
عندما وصلوا إلى الشاطئ، كان الجو هادئًا، والأمواج تتصادم بلطف مع الرمال. لوكا دفع كرسيها المتحرك حتى وصلوا إلى مكان قريب من الماء. "انظري، إيزابيلا، هذا هو البحر"، قال بصوت هادئ، وهو يشير إلى الأفق.
لكن هذه المرة، بدا وكأن شيئًا ما تغير. عيناها كانتا تنظران إلى الأمواج، وكأنها ترى شيئًا لم تره منذ زمن طويل. كانت هناك لمعة في عينيها، وكأنها بدأت تتذكر.
كان الجو صيفيًا دافئًا، ونسيم البحر الخفيف يلطف من حرارة الشمس. لوكا جلس على كرسي بجانب إيزابيلا، التي كانت لا تزال تحدق في الأمواج بعينين واسعتين. كان يحاول أن يتحدث معها، كما فعل مرات عديدة من قبل.
"إيزابيلا، البحر جميل اليوم، أليس كذلك؟" قال بصوت هادئ، وكأنه يحاول أن يصل إليها من خلال وصف المشهد من حولها. "الأمواج تبدو وكأنها ترسم لوحة على الرمال."
لكنها لم ترد، فقط استمرت في التحديق في الأفق، وكأنها في عالم آخر.
لوكا تنهد، لكنه لم يفقد الأمل. "أحيانًا، البحر يجعلنا نشعر بالراحة، كما لو كان يحمل كل همومنا بعيدًا مع الأمواج."
لكنها لم ترد، فقط استمرت في التحديق في الفراغ.
بعد عدة محاولات فاشلة، قرر لوكا أن يتركها لبعض الوقت. ربما كانت تحتاج إلى بعض الهدوء بمفردها. "سأذهب لأحضر لكِ بعض المثلجات"، قال وهو ينهض من كرسيه. "ربما ستستمتعين بها."
تركها على الكرسي المتحرك تحت مظلة صغيرة، مع دفتر الرسم الذي كانت تحمله بين يديها. الأمواج كانت تتصادم بلطف مع الشاطئ، وصوتها كان الوحيد الذي يملأ الجو.
بعد أن ابتعد لوكا، بقيت إيزابيلا جالسة بمفردها، تحدق في البحر. عيناها كانتا تتبعان حركة الأمواج، وكأنها تبحث عن شيء ما في الأفق. يدها كانت تمسك دفتر الرسم، وكأنها تحاول أن تحتفظ به كأنه كنز.
في تلك اللحظة، بدا وكأن شيئًا ما بداخلها يتحرك. كانت هناك لمعة خفيفة في عينيها، وكأنها تتذكر شيئًا ما. ربما كانت ذكريات من ماضيها، أو ربما كانت مشاعر بدأت تظهر بعد سنوات من الاختباء
عاد لوكا حاملًا المثلجات بيديه، وهو يتطلع إلى إيزابيلا من بعيد. لكن عندما اقترب من المكان الذي تركها فيه، وجد الكرسي المتحرك فارغًا. المظلة كانت لا تزال مفتوحة، ودفتر الرسم ملقى على الرمال، لكن إيزابيلا لم تكن هناك.
توقف فجأة، وكأن الأرض اهتزت تحت قدميه. "إيزابيلا؟" نادى بصوت مرتفع بعض الشيء، لكنه لم يتلقَ أي رد.
شعر بشيء غريب في صدره، كأن قلبه يخبره أن شيئًا ما ليس على ما يرام. المثلجات سقطت من يده على الرمال، لكنه لم يكترث. بدأ ينظر حوله بقلق، ثم أسرع نحو الشاطئ، وهو يناديها مرة أخرى: "إيزابيلا! أين أنتِ؟"
كل خطوة كان يخطوها كانت تزيد من قلقه. بدأ يشعر وكأن الوقت يتباطأ، وكل ثانية تمر كانت تزيد من خوفه. "لا، هذا لا يمكن أن يحدث"، همس لنفسه، وهو يبحث بين الناس على الشاطئ. "أين ذهبتِ؟"
كان قلبه ينبض بسرعة، وكأنه على وشك الانفجار. كل سيناريو سيء ممكن بدأ يمر بذهنه: ماذا لو سقطت في الماء؟ ماذا لو اختفت إلى الأبد؟ ماذا لو كانت في خطر؟
"إيزابيلا!" نادى مرة أخرى، وصوته كان يكاد يختنق بالقلق. بدأ يشعر وكأنه على وشك الجنون. كلما طال الوقت ولم يجدها، زاد شعوره بالعجز.
ركض نحو الماء، وهو يبحث بين الأمواج. "هل رأى أحد امرأة هنا؟" سأل الناس على الشاطئ، لكن الجميع هزوا رؤوسهم، وكأنها اختفت دون أن يلاحظها أحد.
ثم تذكر دفتر الرسم. عاد مسرعًا إلى المكان الذي تركها فيه، والتقط الدفتر. ربما كان هناك شيء بداخله قد يعطيه فكرة عن أين ذهبت. فتحه بيد مرتعشة، لكنه لم يجد سوى الرسمة التي رسمتها للبحر.
بعد بحث طويل ومضني، لاحظ لوكا من بعيد ظلًا نحيلًا يتجه نحو البحر. كان الشعر الأسود الطويل يتطاير مع الريح، والثوب الأبيض الذي ترتديه إيزابيلا يلمع تحت أشعة الشمس الغاربة. كانت تخطو ببطء نحو الماء، وكأنها تسير في عالم آخر.
"إيزابيلا!" صرخ بأعلى صوته، وهو يركض نحوها.
لكنها لم ترد، فقط استمرت في التقدم نحو الماء. كانت عيناها فارغتين، كما لو أنها لا تشعر بالماء الذي بدأ يبتل ثوبها. الأمواج كانت تلامس قدميها، ثم ركبتيها، ثم خصرها... لكنها لم تتوقف.
لوكا شعر بشيء سيء يضغط على صدره. لم يكن هناك وقت ليضيعه. خلع حذاءه بسرعة وركض نحو الماء، وهو يحدق في إيزابيلا التي كانت تغرق ببطء.
الأمواج كانت قوية، لكنه لم يكترث. كان يعلم أنه يجب أن يصل إليها قبل فوات الأوان. سبح بكل قوته، وهو يحاول أن يمسك بيدها. "فقط قليلا!" همس بداخله وهو يقترب منها
أخيرًا، استطاع أن يمسك بيدها. كانت باردة، وكأن الحياة قد بدأت تتركها. حاول أن يسحبها نحو الشاطئ، لكن الأمواج كانت تعوقه. "تمسكي بي!" صرخ، وهو يحاول أن يبقي رأسها فوق الماء.
بعد صراع مرهق، استطاع أخيرًا أن يخرجها من الماء. كانت فاقدة للوعي، وشعرها الأسود الطويل كان يلتصق بوجهها الشاحب. لوكا وضعها على الرمال برفق، وهو يحاول أن يستعيد أنفاسه.
Comments