نظرت للمشرفة نظرات حاولت جعلها لطيفة قدر الإمكان ، و نطقت بغصة:
" أنا آسفة"
كشرت المشرفة لتعقد حاجبيها:
" أها، تقولين أنك أسفة! إذن يا آنسة ساندي بيكر كم علي أن اسمع تلك الكلمة منك ثانية؟ "
" لن أعيدها "
" لكنك قلت ذلك من قبل أيضا...لكن دعيني أسمع عذرك ... العذر الذي يجعلك تهربين من الميتم و تسرحين خارجا عند منتصف الليل... و أتمنى أنه سيدعك تفلتين من العقاب"
حركت ساندي قدمها اليمنى و هي تشكل دائرة وهمية على الأرض بطرف حذائها المهترئ...إنها تخاف المشرفة ...ربما هي الشخص الوحيد الذي لا تستطيع التعامل معه في هذا الحي، لذا دائما ما كانت تحاول تجنبها، لكنها تكشفها دوما أيضا :
" في الحقيقة أنا..أ...ناا..."
" هيا ليس لدي وقت ! أنت ماذا؟"
" لقد ذهبت فقط للحصول على بعض الطعام...كنت جائعة!"
ضحكت بسخرية و هي تجز على أسنانها بغضب:
" من يسمعك يا فتاة يقول أننا لا نطعمكم!..."
" لا لا الأمر ليس كذلك....كل ما في الأمر أنكم تقدمون العشاء باكرا جدا فحسب "
" لو كنت تنامين باكرا كبقية أخواتك لما شعرت بالجوع يا هذه...و ماذا في ذلك على أية حال؟ ألم يكن عليك التحلي بالصبر قليلا؟ و من أين كنت ستحصلين على الطعام في هذا الوقت؟"
" لقد...لقد وعدني جاك بأن يعطيني بعض الطعام اللذيذ الذي لم أذقه يوما إن نجحت بالهرب من الميتم عند منتصف الليل...لكن..لكنه أخلف وعده ولم يحضر!"
في الحقيقة هي لم تكن ستقابله...بل إنه لم يعدها بشيئ كهذا مطلقا...إنها لم تره منذ ثلاثة أيام...لقد كانت تكذب!
لكن ما جعل ملامح الإستغراب تتمكن من وجهها هو التعبير الذي أبدته المشرفة...بدت و كأنها رأت شبحا فتسلل الشحوب لوجهها...فكان من الممكن رؤية أطراف أصابع يدها و هي ترتعش...تمتمت ببطئ:
" جاك! هذا مستحيل"
أردفت ساندي ببلادة:
" إنه ليس مستحيلا...لقد قابلته في المطبخ صباحا و هو يحاول سرقة بعض الحليب"
مما جعلها تحول نظرها لها بعدما كانت تنظر للفراغ خلفها...زفرت و قالت بهدوء مريب:
" ادخلي غيري ثيابك الدامية هذه و نامي سأتفاهم معك لاحقا"
حين رفعت نظرها ثانية كان الظل الواقف على الرصيف المقابل قد اختفى، لذا تابعت ساندي و هي تدخل بنظراتها الجامدة ...تنهدت و تبعتها و ما زال الشحوب مسيطرا على وجهها...
***
تقلبت في فراشها كثيرا لكنها لم تستطع النوم ، كان هناك شيئ يمنعها من ذلك، عقلها يحاول اخبارها بشيئ لكنها لا تستوعبه ...نهضت بنصفها العلوي و هي تنفخ و تضرب الغطاء بقبضتيها الضئيلتين... أزالت شعرها الأسود عن جبينها المجروح بيدها المخدوشة...كانت تبدو كمن خرجت من شجار فتيات عنيف، لكنه كان أكثر من ذلك بكثير ...لقد نجت من الموت!
تساءلت إن كان عليها التوقف عن ما تفعله...لكنها سرعان ما نفضت تلك الفكرة عن رأسها فهي تحتاج المزيد و المزيد من المال...و لحسن الحظ ففي هذه القرية هناك الكثير من الأشخاص الذين سيدفعون أكبادهم لحفظ أسرارهم ... لكن ما كان يقلقها هو أن ليس الجميع جبانا بل أن منهم من هو مستعد للقتل في سبيل حفظ ماء وجهه...تنهدت(يا لهم من حثالة وضيعة، يتجرأون على النظر إليها بتلك الطريقة!)
خطر فجأة على بالها شيئ قد تجاهلته تماما...هذا غريب لما غفلت عن الأمر كل هذا الوقت؟...إن المشرفة لم تعاقبها و هذا أكثر شيئ يدعو للشك!
لم تمر فترة طويلة حتى بدأت اصوات الطرق تتعالى من الطابق السفلي...و لم تكن ساندي بالفتاة التي ستتجاهل الأمر و تعود للنوم...
نزلت من على سريرها الذي يصدر صريرا بخفة، فتوجهت للباب على رؤوس أصابعها فلم تكن لها رغبة في إيقاظ البقية ... وضعت يدها على مقبض الباب الصدئ ثم سحبت...سحبت بقوة أكبر ...لكن الباب لم ينفتح ...(لقد أغلقت المشرفة الباب من الخارج!).
عادت لسريرها من جديد و هي تتنهد ( لما عليها جعل الأمر بتلك الصعوبة؟)...سحبت من تحت سريرها حبلا مخبأ بإتقان ثم سحبت صندوقا خشبيا محكم الإغلاق مليئا بأشياء ثقيلة كفاية....ربطت طرف الحبل حوله ثم الطرف الآخر حول خصرها...فتحت النافذة ثم رمت بنفسها دون أن يرمش لها جفن!
بعد لحظة كان تتدلى أمام نافذة الطابق الأرضي (رائع لم تخطئ في حساب المسافة!)...و بما أن النافذة تطل مباشرة على الصالة فقد كان بإمكانها رؤية المرأة الأربعينية و هي ترفع المعول عاليا بيديها محاولة إزالة طبقة الإسمنت الرقيقة بينما تكدست الألواح الخشبية بجانبها.
و لثاني مرة تستغرب ساندي من شيئ طوال حياتها...فهي لم تتوقع هذا لقد ظنت بأنها الطباخة...
و بذكر الأمر الآن فقد بدا ذلك غريبا جدا ...فلطالما رقصن فرحا بالطعام الذي يحضره جاك في هذه الصالة، لكن في هذا الصباح فقط كن يلعبن و يتمازحن فوق جثته مباشرة ... إن الأمر مدعاةً للسخرية بالرغم من أنه قد يكون مخيفا للبعض لكن ليس لها.
تسلقت الحبل بشق الأنفس عائدة لغرفتها...أعادت كل الأمور إلى نصابها ثم قفزت على سريرها وغطت رأسها باللحاف المهترئ بينما كان بالإمكان سماع صرير الدرج الخشبي المزعج بفضل الخطوات المترددة التي تصعده حاملة نية ليست بالجيدة.
إنها تشعر بالأسف على جاك...لقد كان عزيزا عليها حقا...لذا فهي لن تدع الأمر يمر مرور الكرام!
هذا ما فكرت فيه بينما تغلق عينيها تواقة لشروق الشمس...
Comments