في غرفة الانتظار

في غرفة الانتظار

فصل اول: من وجهة نظره. فصل ثاني: الصمت لايأتي من العدم

لم يكن يعرف لماذا عاد إلى المصحة. الجلسة النفسية كانت مقررة كل ثلاثاء، تمام الرابعة، لكنه كثيرًا ما كان يغيّر الموعد، يتحجج بعمل لا يملكه، أو صداع لا يصيبه أصلًا.

لكنه لم يغيّر هذا الموعد منذ لقائها الأول.

لم يتحدثا. لم يتبادلا النظرات حتى. لكنها كانت هناك.

الفصل الأول: “كأنها كانت هناك منذ زمن

غرفة الانتظار تشبه كل غرف العالم: كراسي رمادية باهتة، جداران بلون الجلد القديم، موسيقى هادئة تجعل التفكير أكثر صخبًا.

لكنه منذ رآها أول مرة، شعر أن الغرفة لم تعد كذلك. أصبحت مرآة.

هي تجلس دومًا قرب الزاوية، وكأنها لا تثق بالمساحات المفتوحة. تحمل دفترًا، لكنه لم يرَها تكتب فيه أبدًا.

وجهها لم يكن جميلاً كما يجب، ولا باهتًا كما يريد، لكنّه كان غريبًا.

كأنك رأيته في حلمٍ قديم، أو في لوحة في عقل شخص ميّت.

لم يكن يعرف اسمها. ولم يسأل. لكنه كان يفكر:

“لماذا تأتي كل ثلاثاء، تمام الرابعة؟”

هي ليست مريضة. يعرف المرضى. يقرأ المرض في العيون والكتف المُنزلِق وفي طريقة مسك كوب القهوة.

هي لم تكن منهم.

كانت تحمل معها شخصًا آخر – أختها ربما، أو صديقتها. فتاة شاحبة، ترتجف أحيانًا، تهمس لها بأشياء غير مفهومة.

هي تأتي من أجلها، وتجلس بانتظارها.

لكنه، في داخله، أقنع نفسه أنها تأتي لأجله.

ربما تكون هذه كذبة. وربما لا.

حين دخل الغرفة اليوم، وجدها قبله. كانت تمسك الدفتر بين يديها، لكن دون أن تنظر إليه.

جلس في المقعد المقابل، بنفس الزاوية، كما يفعل دومًا.

شعر بالخجل من نفسه. رجلٌ في الثلاثين، يهرب من الكلام، من الحقيقة، من كل شيء، فقط ليجلس أمام امرأة لا يعرف عنها شيئًا.

فكّر:

“هل تشعر بي كما أشعر بها؟”

“هل تعلم أن كل يوم ثلاثاء، كل أسبوع، أرتب ملابسي وكأنني ذاهب إلى حفلة؟”

“هل تعلم أني أكتب عنها دون أن أعرف اسمها؟”

كتب عنها بالفعل. في دفتره الممزق. رسم ملامح وجهها بلغة متعبة، كأنها طيف لا يُرسم بل يُشعر.

لكنّه لم يجرؤ يومًا على النظر مباشرة في عينيها.

كانت لحظتهما الوحيدة، لحظة الصمت المشترك، أقرب للعبادة.

وكأن الانتظار ذاته صلاة، وهي القبلة.

صوت الممرضة قطع التأمل:

“أستاذ سامر، دورك.”

نهض ببطء، وقلبه بقي هناك، في المقعد المقابل.

ولمّا مرّ بجانبها، لمح للمرة الأولى عينها ترفّ.

كأنها تعرف. كأنها كانت تنتظره.

………………………………………..

الفصل الثاني: “الصمت لا يأتي من العدم”

(من وجهة نظرها)

لم تكن تفهم لماذا تنتظر معها كل مرة. هي – أختها الصغيرة – لا تحب الأماكن المغلقة، ولا الجدران البيضاء، ولا الروائح المُعقّمة. لكنها كانت تصرّ على أن تبقى معها، أن تراها وهي تدخل، وتنتظرها وهي تخرج، كأن في وجودها ما يطمئنها… أو يطمئن نفسها هي.

لكنه ليس السبب الوحيد.

كان هناك شيء آخر. شيء لم تبح به لنفسها حتى.

ذلك الرجل.

لم يكن وسيمًا.

بل كان فيه شيء من الحزن الجميل، من ذلك التعب الذي لا يُشفق عليه الناس بل يتعاطفون معه من بعيد.

كان يجلس هناك كل ثلاثاء، بنفس التوقيت، في الزاوية المقابلة.

ولا ينظر إليها.

وهذا ما جذبها أكثر.

الرجال الذين يحدقون يفقدون سحرهم بسرعة.

أما هذا، فكان ينظر إلى الأرض، أو إلى اللاشيء، كأنه يخاف أن يُرى أو أن يرى.

وقد شعرت بشيء غريب تجاهه من المرة الأولى: نوع من الفضول الهادئ، ليس من النوع الذي يدفعك للكلام، بل من النوع الذي يجعلك تنتظر كل أسبوع لترى نفس المشهد من جديد… فقط لأنه مريح، فقط لأنه مختلف.

في المرة الأولى، حسبته طبيبًا.

في الثانية، حسبته مريضًا جديدًا.

في الثالثة، فهمت: هو مثلها. يأتي ولا يتكلم. لا مع الناس، ولا مع نفسه.

في تلك المرة الأخيرة، التي دخلت فيها مع أختها، وجدته جالسًا.

لم تلحظ ذلك مباشرة.

لكنها شعرت به.

لا تعرف كيف تفسّر هذا، لكنه كان مثل طاقة تسري في الغرفة حين يكون.

كأن أحدهم يشدّ الحزن من أطرافه ويلفه حول جسدها بهدوء.

جلست.

فتحت دفترها.

لم تكتب.

هي لا تكتب أصلًا.

لكنها تخاف أن تنظر إليه مباشرة، فتبدو مكشوفة. الدفتر هو ستارتها.

والنظرات العابرة، تلك التي لا تُقصد، هي رسائلها.

حين مرّ بجانبها، وهي تسمع صوت الممرضة تناديه، أحسّت بشيء يتغير.

نسيت نفسها، ورفّت عينها نحوه.

لحظة خاطفة. لكنها شعرت أن الزمن توقف. كأنها قالت شيئًا دون أن تنطق، وكأن عينه سمعتها.

ثم غاب في الممر، وبقيت هي تفكر:

هل يلاحظ وجودها كما تلاحظ وجوده؟

هل يكتب عنها؟

هل… ينتظرها؟

الصمت لا يأتي من العدم.

والانتظار ليس دائمًا من أجل أحد.

أحيانًا، ننتظر لأننا وجدنا في وجود الآخر ما يبرّر وجعنا.

وهي… لم تعد تريد شيئًا أكثر من أن تجلس في تلك الغرفة، صامتة، قرب رجل لا تعرفه، فقط لأن في صمته ما يشبهها كثيرًا.

Episodes

Download

Like this story? Download the app to keep your reading history.
Download

Bonus

New users downloading the APP can read 10 episodes for free

Receive
NovelToon
Step Into A Different WORLD!
Download NovelToon APP on App Store and Google Play