صندوق الصور

الفصل الثالث: صندوق الصور

هذه ليست سيرة، ولا رواية عن شخص بعينه.

إنها مجرد عناوين لحياةٍ بلا اسم، عابرة مثل ظل، وقريبة مثل نفس.

كل عنوان فصل، وكل فصل لحظة، واللحظات هي ما يصنع وجودنا.

فتح الدرج ببطء، وكأن هناك سرًا مخبأً في أعماقه ينتظر أن يُكتشف.

داخل الدرج كان صندوق خشبي قديم، متين رغم غبار السنين. رفع الغطاء، فامتلأت الغرفة فجأة برائحة الورق القديم والخشب المائل للحرق. الصور كانت مكدسة بشكل عشوائي، بلا ترتيب، بلا أسماء مكتوبة على الظهر.

أمسك بالصورة الأولى: وجه مبتسم لطفل لا يعرفه، خلفه نافذة تطل على شجرة يابسة. لم يتذكر أن كان هذا الطفل هو هو، أو إن كان شخصًا آخر. كل الصور بدا لها شيء غريب: مألوفة جدًا، لكنها لم تنتمِ إليه تمامًا. وكأنها مقتطفات من حياة محتملة، ربما عاشها في نسخة أخرى من الزمن، أو ربما حلم بها فقط.

تأمل الصورة التالية. رجل يجلس على كرسي خشبي أمام منزل صغير. يده ترتجف قليلًا، أو ربما الصورة ارتجفت عند التقاطها. لم يكن يعرف الرجل، لكنه شعر بشيء مألوف: الكتفين المثقلين، النظرة التي تبحث عن شيء بعيد، الصمت الذي يحاصر المكان كله. ابتسم بطريقة باهتة: ربما هذا هو هو، في لحظة لم يعرف أنه عاشها.

بدأ يقلب الصور واحدة تلو الأخرى: شوارع ضيقة، مقاعد خالية، نافذة نصف مفتوحة، ظل شجرة على جدار، يد تمسك بفنجان قهوة. كل صورة كانت عنوانًا لحياة لم تُحكى، لحظة لم تُسرد، وكل واحدة منها تدعو للتخمين: هل هذا جزء من حياته؟ أم مجرد انعكاس لحياة شخص آخر لم يولد بعد؟

جلس على الأرض، وأخذ صورة بين يديه. كانت صورة لامرأة تبتسم في ضوء شمس باهت. لم يذكر أن ابتسامتها كانت له، لكنه شعر بحرارة غريبة: دفء لم يعرفه، ولحظة لم يحدث لها زمن. رفع الصورة مقابل وجهه، وتخيل أنها تعكس جزءًا منه، جزءًا ظل مختبئًا في الظل.

ثم لاحظ شيئًا آخر: بعض الصور مقلوبة، وبعضها ممزق عند الحواف. وكأن هناك من أراد أن يحجب جزءًا من الحقيقة، أو أن يحفظ الذكريات المختارة فقط. شعر بحنين غريب إلى هذا المجهول: رغبة في معرفة ما هو له وما ليس له، رغبة في إعادة ترتيب الصفحات الغامضة لحياته، حتى ولو كان مجرد وهم.

أدار رأسه نحو الصندوق كله. كم عدد اللحظات التي لم يعرفها؟ كم صورة لم يرها؟ كم حياة محتملة ضاعت بين الأيدي ولم تُسجّل؟ كان يشعر أنه أمام شلال من العناوين، كل عنوان يحمل قصة، وكل قصة تطلب أن تُروى. لكنه لم يكن مستعدًا بعد.

أمسك بصورة أخرى، هذه المرة لصبي يقف عند شاطئ، البحر أمامه لا نهاية له. رأى نفسه في الصبي، أو ربما لم يكن كذلك، لكنه شعر بالحرية التي يتيحها البحر لكل من يقف أمامه: مساحة مفتوحة، صمت عميق، وعد بعدم العودة إلى المكان نفسه مرة أخرى.

أغلق الصندوق بعد وقت طويل. بقيت الصور في الداخل، كما لو أنها تنتظر من يفتحها مرة أخرى، من يقرأ العناوين بين الظل والضوء. وقف، وتلمس الغبار على الطاولة، وتساءل: هل نملك نحن حياتنا حقًا، أم أننا مجرد مراقبين لنسخ محتملة من أنفسنا؟

حمل الصندوق إلى النافذة، ألقى نظرة أخيرة على الصور. شعور غريب انتابه: مزيج من الانتماء والاغتراب، من المعرفة والجهل، من الحياة والمجهول. لحظة واحدة، صامتة، لم تكن صورًا فقط، بل انعكاسًا لكل الفراغات التي ملأتها اللحظات العابرة.

وهو يغلق النافذة، أدرك أنه مثل الصندوق نفسه: مليء بالصور التي قد تكون له أو قد تكون لآخرين، مليء بالعناوين التي لم يُكتَب لها الزمن بعد، مليء بالفراغات التي تنتظر قارئًا، لحظة، أو فكرة ليجعلها حقيقة.

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon