الفصل الثاني: محطة القطار
ليست هذه الرواية سيرة أحد، ولا حكاية اسم معروف. ما سيأتي هنا ليس أكثر من عناوين، إشارات صغيرة إلى حياةٍ بلا ملامح محددة.
حياةٌ يمكن أن تكون حياة أي إنسان، أو ربما جميع البشر معًا.
كل عنوان فصلٌ، وكل فصلٍ مجرد وقفة أمام تفصيلٍ عابر: ورقة، محطة، غرفة، ظل، أو صوت بعيد.
لا يهم من هو هذا "الإنسان"، ولا متى عاش، ولا أين.
المهم أن نتتبع أثره عبر العناوين، وأن نرى كيف تتحول اللحظات العادية إلى مرايا تكشف ما نخفيه نحن أنفسنا.
هكذا تبدأ الحكاية: بورقة بيضاء تنتظر كلمة، وبإنسان يتساءل إن كان للكلمة القدرة على أن تصير حياة.
كان واقفًا على الرصيف، يراقب القضبان الممتدة كخطوط حديدية تبتعد إلى ما لا نهاية. بدا المشهد بسيطًا: محطة عادية، مقاعد باردة، ساعة قديمة تشير إلى وقت لا يهم أحدًا، وصفير متقطع في الهواء. لكن داخله كان ممتلئًا بانتظار لا يعرف وجهته.
لم يكن يعلم أي قطار سينتظر، ولا إلى أين سيذهب. فكرة الوجهة بدت بعيدة، كأنها تخص آخرين يعرفون ماذا يريدون من رحلاتهم. هو لم يرد سوى لحظة يذوب فيها في حركة العالم، أن يكون عابرًا بين العابرين.
جلس على مقعد خشبي يطل على الرصيف. أمامه امرأة تمسك بيد طفلها، والطفل يلوّح ببالون أحمر صغير. البالون بدا في نظره أكثر وضوحًا من وجوه المسافرين، أكثر صدقًا من خطواتهم المترددة. كلّ شيء حوله يتحرك، لكن البالون ظل يعلو وينخفض بإيقاع بسيط، مثل قلبٍ يخفق في الهواء.
اقترب منه صوت مكبّر المحطة: "القطار المتجه إلى الشمال يصل بعد دقائق." كلمات مألوفة، باردة، كأنها لا تخصّ أحدًا بعينه. ومع ذلك، شعر أن النداء كان يخصّه هو فقط، وكأن الصوت يناديه باسمه الذي لا يملكه.
مرّت أمامه وجوه كثيرة: رجل يحمل حقيبة جلدية قديمة، شاب يضع سماعات ويهزّ رأسه على إيقاع صامت، امرأة عجوز تمسك بكتاب وتقرأ وهي تمشي. كل وجه كان عنوانًا لحكاية لن تُروى. تساءل: هل المحطة مجرد مسرح كبير تُعرض فيه مشاهد قصيرة، ثم تختفي بلا أثر؟
رفع رأسه نحو اللوحة المعلقة فوق الرصيف. أسماء المدن تتغير بسرعة، كأنها شريط سينمائي: "جنوب... شرق... شمال..." تساءل أيّها أقرب، وأيّها أبعد. لكن ما الفرق؟ كل القطارات تمضي، وكلها تتركه خلفها إذا لم يصعد.
تذكّر فجأة أن الانتظار نفسه ربما يكون رحلة. لم يكن بحاجة إلى تذكرة أو مقعد في عربة. ما يحتاجه فقط هو أن يسمح للخيال أن يركب مكانه: أن يتخيل نفسه في مدينة جديدة، ينام في فندق بارد، يفتح نافذة تطل على شارع غريب، أو يضيع في زحام لا يعرف لغته.
صفّر القطار القادم، وارتجّ الرصيف تحت وقع الحديد. هبّ الجميع واقفين: من يركض ليلحق بالباب، من يجر حقيبته متعثّرًا، ومن يلوّح مودّعًا بيد مرتجفة. أما هو فظل جالسًا، كأنه الوحيد الذي لم يقرّر شيئًا.
حين توقّفت العربات، انفتح الباب أمامه مباشرة. نظر إلى الداخل: مقاعد خالية، نوافذ واسعة، وجو دافئ يدعوه للدخول. لكنه لم يتحرك. ظل ينظر، ثم ابتسم ابتسامة باهتة. شعر أن كل ما يحتاجه قد حدث بالفعل: لحظة التردد تلك، لحظة أن يكون واقفًا بين القرارين، كانت هي رحلته الحقيقية.
تحرّك القطار ببطء، ثم تسارع حتى ابتلع الأفق. عاد الصمت، ولم يبقَ سوى أثر البالون الأحمر وهو يرتجف في يد الطفل الذي ظل يلوّح للفراغ.
تنفّس بعمق، ونهض عن المقعد. لم يصعد ولم يسافر، لكنه شعر أن المحطة قد منحته ما لم يمنحه أي مكان آخر: درس أن الحياة ليست في القطار الذي يرحل، بل في الوقوف على الرصيف، حيث تكون كلّ الاحتمالات ممكنة في لحظة واحدة.
نهاية الفصل الثاني
Comments