رحم الحياة

الفصل الثالث: الأم: رحم الحياة

كانت والدتها دائمًا الحاضرة في تفاصيل حياتها الصغيرة، كظل لا ينفصل عنها، كنسمة لا تترك أثرًا إلا في القلب. لم تكن كلماتها كثيرة، لكنها كانت محملة بالمعاني، أحيانًا بصمت، وأحيانًا بالطلب، وأحيانًا باللوم.

تتذكر أول مرة شعرت فيها بالحب غير المشروط. كانت طفلة في السابعة، تجلس بجوار أمها على عتبة الشرفة، والسماء تمطر مطرًا خفيفًا. أمسكت يدها وقالت بصوت خافت:

"أنتِ قوية، حتى حين تشعرين بالضعف."

لم تفهم معنى القوة بالكامل آنذاك، لكنها شعرت بالدفء يتسرب إلى روحها. كانت تلك اللحظة بذرة صغيرة بدأت تنبت شيئًا في داخلها، شيئًا سيصبح جزءًا من هويتها لاحقًا.

لكن الأم لم تكن دائمًا ملجأً. أحيانًا شعرت بالحدة، كما لو كانت تحاول أن تصوغها وفق قالبٍ جاهز، أن تزرع فيها ما يراه المجتمع صالحًا لأنثى. كلمات مثل: "اجلسي بهدوء، لا تصرخي، كوني لطيفة"، كانت تبدو بسيطة لكنها تحمل أوزانًا ثقيلة. تعلمت أن الأنوثة ليست فقط ما يولد الإنسان به، بل ما يُزرع فيه ويُصاغ بحسب أعراف الناس.

رغم ذلك، كان هناك تفاهم صامت بين الأم وابنتها، رابط لا تحتاج الكلمات لتوضيحه. حين كانت الأم تقرأ كتابًا على الطاولة، كانت تلمحها من بعيد، وتعرف أن الفضول يجرها نحو المعرفة، نحو حلم أكبر مما يسمح به محيطها. لم تمنعها أبدًا من الأحلام، بل كانت تشعل شعلة صغيرة فيها، كأنها تقول: "تعلمي، اكتشفي، احلمي… ولكن احرصي على البقاء بخفاء."

في ليالي الشتاء الطويلة، كانت الأم تحكي لها قصصًا عن نساء قدمن تضحيات كبيرة، نساء قاومن الحياة، نساء تركن أثرهن في العالم بلا ضجيج. كانت تحكيها بصوت هادئ، ولكن كل كلمة كانت تزرع ثقة في قلب طفلتها الصغيرة: أن القوة لا تتعارض مع الأنوثة، وأن الصمت أحيانًا يكون أكثر صدقًا من الكلام.

كبرت البطلة على وقع هذه التناقضات: حب وحرية محدودة، دفء وحدود، توجيه وحماية. تعلمت كيف تصغي للأم وكيف تصغي لنفسها، وكيف توازن بين العالم الخارجي وصوتها الداخلي. أدركت أن الأم ليست مجرد مربية أو صانعة للبيت، بل كانت أول معلمة للحياة، أول من زرعت فيها بذور الصمود، وأول من وضعت أمامها مرايا صغيرة لتكتشف بها نفسها.

في سن المراهقة، حين بدأ جسدها يتغير، والابتسامات حولها تتغير، شعرت بأن وجود الأم أصبح أكثر أهمية وأكثر تعقيدًا. كانت الملاحظات تأتي أحيانًا على شكل نصائح بسيطة: "الفتاة لا ترفع صوتها كثيرًا"، "الملابس يجب أن تكون محتشمة"، "كلمي أحدًا بلطف". ومع كل كلمة، كان قلبها الصغير يثور، لكنها تعلمت التسلل بين هذه الحدود، تعلمت كيف تحافظ على هويتها في ظل قيود المجتمع، وكيف تجعل الأم مصدر قوة وليس قيدًا.

الأم كانت تعرف كل ذلك، وربما كانت تتعمد ألا تقول الكثير، لتترك لها فرصة التعلم بنفسها. في بعض اللحظات، شعرت البطلة بالغضب، بالاختناق، بالضيق، لكنها كانت تدرك أن الحب الحقيقي هو الذي يترك أثرًا عميقًا في روحها، ويعلمها كيف تكون أنثى قوية رغم كل القيود.

وعلى الرغم من كل التحديات، أدركت شيئًا مهمًا: أن الأنوثة لا تُولد من الصرامة أو الحرية وحدها، بل من توازن دقيق بين الاثنين، من فهم المرأة نفسها، ومن قدرتها على التعلم من أول امرأة أحبّتها بلا شروط… والدتها.

في النهاية، جلست أمام المرآة كما اعتادت، ولمست وجهها الصغير فيه آثار طفولة مملوءة بالحب والتحديات، وابتسمت. فهمت أن رحلة الأنوثة بدأت منذ زمن بعيد، في رحم الحياة نفسه، في قلب الأم.

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon