أنثى
الفصل الأول: المرايا
لم تكن المرآة يومًا صديقةً لها. كانت تراها خصمًا صامتًا، يختزن ملامحها ليعيدها إليها كل صباح وكأنه يذكّرها بما لم تستطع الهرب منه. تقف أمامها في لحظة تشبه المحاكمة، تتأمل عينيها الداكنتين كأنهما بئران بلا قاع، تلمس بخفة الخطوط الدقيقة حولهما التي لا يراها أحد سواها، وتراقب شعرها المرسل كستارة تحاول أن تحجب أكثر مما تكشف. في كل مرة تلتقي عيناها بانعكاسها، ينهض سؤال قديم:
"هل هذه حقًا أنا؟ أم أنثى أخرى تعلّق وجهها على وجهي؟"
حين كانت طفلة صغيرة، لم تكن المرآة مجرد زجاج صامت. كانت عالمًا غامضًا يسكنه كائن يشبهها تمامًا، يضحك حين تضحك ويعبس حين تعبس. تتذكر جيدًا فستانها الأزرق المزركش، وكيف دارت حول نفسها أمام المرآة يوم العيد، فانبثقت منها فرحة بريئة جعلتها تظن أن المرآة صديقتها الأقرب. لكنها لم تنسَ أيضًا الهمسة التي باغتت طفولتها. جدتها تقول لأمها بصوت مرتفع كفاية:
"كبرت البنت… صار لازم نعلّمها كيف تجلس وتضحك وتخفض رأسها."
كان ذلك اليوم أول مرة تدرك أن انعكاسها ليس ملكًا لها. منذها صارت المرآة قفصًا يعيد إنتاج ما يُنتظر منها: أن تكون أنثى مطيعة، أن تحسن الجلوس، أن تبتسم بالقدر المسموح، أن تُخفي ما يفيض عن الصورة المقبولة. المرآة لا تُريك فقط وجهك، بل تُريك كيف يراك الآخرون، وكيف يريدونك أن تكون.
كبرت قليلًا، وكبر معها ذلك الوعي الصامت. كلما وقفت أمام المرآة، لم تعد ترى نفسها بقدر ما ترى آثار الكلمات التي حفرت في وجدانها. كانت تلمس ضحكتها لتتأكد أنها ليست صاخبة، وتعدّل شعرها لئلا يبدو جامحًا أكثر مما يجب، وتُخفي الكدمات الصغيرة على روحها بابتسامة مصطنعة. ومع الوقت، صارت المرآة دفتر ملاحظات لحياة كاملة تُسجّل على وجهها بصمت.
لكنها لم تستسلم تمامًا. كانت هناك لحظات نادرة تجرؤ فيها على تحدّي انعكاسها. تقف أمام المرآة طويلاً، ترفع رأسها عاليًا، تبتسم كما تشاء، ترقص قليلًا في الخفاء، وتهمس: "أنا أكثر من صورة. أكثر من أنثى كما يصفونها." وفي تلك اللحظات، كان قلبها يخفق بحرية لم تعرفها في العلن.
ورغم ذلك، ظل الخوف ساكنًا في أعماقها. في ليالٍ كثيرة، كانت تستلقي على سريرها وتراقب الظلام المحيط بها. تفكر في المرآة المعلّقة على الحائط المقابل، كأنها عين مفتوحة تترصد أحلامها. تساءلت: لماذا تُلزمها هذه الكلمة ــ أنثى ــ بكل هذا العبء؟ لماذا تشعر أن وجودها مشروط دائمًا بما يريده الآخرون؟
شيئًا فشيئًا، بدأت تفهم أن الأنوثة في عالمها ليست هدية تُحتفى بها، بل امتحانًا طويلًا. عليها أن تثبت براءتها في كل خطوة، أن تحارب لتحافظ على حريتها الصغيرة، وأن تحتمي من نظرات تريد أن تصوغها على مقاسها. وكلما أعادت المرآة انعكاسها، رأت هذه الحقيقة أكثر وضوحًا: أن كونها أنثى لم يكن اختيارًا، لكنه صار معركة.
تشدّد على قبضتها حين تلمس حافة الطاولة أمامها، وتنظر مرة أخيرة إلى عينيها في الزجاج. لم تعد الطفلة ذات الفستان الأزرق، ولا الفتاة التي تُخفي ضحكتها خشية اللوم. ثمة شيء جديد يطلّ من انعكاسها، مزيج من التحدي والحيرة. تشعر أنها على أعتاب حكاية طويلة لم تبدأ بعد.
ابتسمت ابتسامة صغيرة، غامضة، كأنها تعقد مع نفسها اتفاقًا سريًا. قد لا تكون المرآة صديقة، لكنها على الأقل شاهد لا يرحم. ومن خلف ذلك الزجاج، ستظل تراقب تحولاتها، سقوطها وقيامها، انكساراتها وتمردها، حتى تصل في يومٍ ما إلى أن تقول بلا تردد:
"نعم، هذه أنا… أنثى كما أريد أن أكون."
Comments