بذور انثى

الفصل الثاني: بذور أنثى

أنثى" ليست مجرد كلمة.

هي انعكاسات في المرآة، خطوات في الظل، صمت وحكايات لا تُروى.

كل فصل هنا مرآة، وكل مرآة تحكي عن امرأة تبحث عن نفسها… عن حريتها… عن أنوثتها.

كانت طفولتها حقلًا صغيرًا، تُزرع فيه الكلمات كما تُزرع البذور. بعضها ينبت فرحًا، وبعضها الآخر شوكًا لا يزول.

تتذكر باحة البيت القديمة، حيث كانت تركض حافية فوق التراب، تركض بحرية تجعلها تعتقد أن العالم واسعٌ بلا حدود. لكن دائمًا كان هناك صوت ما يوقفها: "عيب… اجلسي… البنات لا يركضن هكذا!"

في البداية لم تفهم. لماذا يحق لأخيها أن يقفز فوق الأسوار ويعود بثيابٍ ملطخة بالغبار، بينما يُطلب منها أن تجلس بهدوء وتخيط فستان دميتها؟ كانت تستمع للوم وتطأطئ رأسها، لكنها في قلبها الصغير كانت تصرخ: "أنا أيضًا أريد أن أطير."

كبرت على وقع تلك التفرقة. كانت الأعياد مناسبة مثالية لتكتشف الفارق. أخوها يُعطى دراجة جديدة، وهي تُعطى حذاء لامعًا أو فستانًا جديدًا. كانوا يقولون لها: "الفتاة جمالها في ثيابها." فتضحك أمامهم، لكنها في سرها تتمنى أن تمسك المقود وتشقّ الطريق كما يفعل هو.

أول مرة شعرت فيها بالظلم بوضوح، كانت في المدرسة. يومها رسمت على دفترها بيتًا صغيرًا تقف أمامه امرأة قوية ترفع يديها نحو السماء. حين عرضت المعلمة الرسوم أمام الطالبات، قالت مبتسمة: "بيت جميل، لكن لماذا جعلتِ المرأة هي التي تقف بالخارج؟ عادةً الرجل هو من يحمي البيت."

ضحكت الصديقات، وبقيت هي صامتة، بينما اشتعل قلبها الصغير بحيرة لم تعرف كيف تعبّر عنها.

كل هذه المشاهد تراكمت كحبات رمل تبني جدارًا حولها. ومع ذلك، كان هناك دومًا شعاع ضوء يتسلل من بين الشقوق. ففي ليالي الصيف، حين كان البيت ينام، كانت تخرج إلى السطح وتنظر إلى السماء. كانت تتخيل نفسها نجمة، تلمع بلا إذن من أحد، وتُشرق في الفضاء بلا قيود. هناك، في عزلة صامتة، ولدت أول بذرة حلم في داخلها: أن تكون مختلفة.

لكن المجتمع لم يتوقف عن زرع البذور الأخرى. كلمات الجارات وهي تمرّ بجوارهن: "احفظي صوتكِ، البنت زينتها الهدوء." نظرات العابرين حين ترفع عينيها في الطريق. وحتى في البيت، وصايا متكررة: "البنات سمعة العائلة."

كل عبارة كانت تسقط داخلها كحجر، لكنها في الوقت نفسه كانت تتعلّم كيف تخبئ أحجارها، وكيف تبني منها جدارًا يحمي أسرارها الصغيرة.

وسط هذا كله، كان والدها استثناءً. رجل قليل الكلام، لكنه حين يضع يده على رأسها، كانت تشعر أن الدنيا كلها تتسع. في إحدى المرات، جلس بجانبها وقال: "لا تسمحي لأحد أن يطفئ نورك. الله خلقك نورًا." لم تفهم المعنى كاملًا، لكنها حفظت الجملة كما تُحفظ الأغاني. كانت كفيلة أن تمنحها يقينًا صغيرًا بأن ما تشعر به ليس خطأ.

مرت السنوات، وطفولتها صارت مسرحًا مزدحمًا بالتناقضات: ضحكٌ صاخب مع الصديقات في المدرسة، وبكاء مكتوم في الليل خوفًا من أحلامٍ تُقصيها. شعرت مبكرًا أن كونها "أنثى" يعني أن العالم يتعامل معها ككائن هش، بينما بداخلها كانت تعرف أنها أصلب من كثيرين.

حين بلغت الثانية عشرة، جلست للمرة الأولى أمام المرآة طويلاً. لم تعد ترى الطفلة فقط، بل ملامح أنثى صغيرة في طور التفتح. ارتبكت، لم تعرف هل تفرح أم تخاف. لامست شعرها الطويل بإصبع مرتجف، وابتسمت بحذر. في تلك اللحظة بالذات، فهمت أن بذور الطفولة بدأت تُزهر، لكنها أيضًا عرفت أن هذه الزهور ستجلب معها عواصف لا بد من مواجهتها.

وفي أعماقها، أقسمت بصمت: لن أسمح لأحد أن يقرر من أكون.

---

انتهى الفصل الثاني

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon