الفصل الثالث : طفولة يوسف و بدايات النور

كبر يوسف في بيتٍ تحفه الطمأنينة رغم المحن. لم يكن بيتًا مترفًا ولا مزدانًا بالذهب والفضة، لكنه كان عامرًا بذكر الله، تغشاه البركة من دعاء أمٍ صالحة، وحزم أبٍ عارفٍ بالمسؤولية. كان يسمع في الليل صوت أمه وهي تناجي ربها، فيتسلل قلبه الصغير ليلامس معاني الإيمان قبل أن يعرف حروفها. وحين يطلع النهار، يرى والده قائمًا على خدمة الناس بالعدل والرحمة، فيتعلم أن الرجولة ليست في القوة وحدها، بل في نصرة الضعيف وإكرام الضيف وحفظ العهد.

وكانت ملامحه منذ صغره تبشر بمستقبل مختلف. عينان يملؤهما ذكاء فطري، وجبهة عالية كأنها تحمل سرًا مكتوبًا عليها. لم يكن كسائر الأطفال الذين يغلب عليهم اللهو، بل كان وقورًا هادئًا، يتأمل أكثر مما يتكلم، وينصت أكثر مما يلهو. حتى إذا ضحك، كان في ضحكته رزانة لا تخفى على من يراه.

حرص نجم الدين على أن يكون ابنه في صحبة العلماء، فأجلسه بين حلقاتهم وهو بعد صغير، يلقنه حب القرآن ويغرس في قلبه هيبة العلم. فشبّ يوسف محبًا للفقه والحديث، منصتًا إلى المواعظ، لا يملّ من الساعات الطويلة التي يقضيها بين المصاحف والكتب. وكان والده يردد على مسامعه:

«يا بني، إنما يُرفع الرجال بالعلم والإيمان قبل أن يُرفعوا بالسيوف.»

أما والدته شمسة، فكانت تُربيه على الحياء والطهر. كثيرًا ما أمسكت بيده الصغيرة وأخذته إلى مجالس النساء الصالحات، ليشاهد كيف يلهجن بذكر الله، فينطبع ذلك المشهد في قلبه. كانت تقول له برفق:

«يا يوسف، إن القلب إذا امتلأ بالقرآن، صار حصنًا لا تهدمه الخطوب.»

فنشأ قلبه نقيًا، ولسانه رطبًا بآيات الذكر الحكيم، وعقله يتفتح على معاني المسؤولية.

رغم صغر سنه، كان يُبدي ميلًا عجيبًا نحو الفروسية. كلما رأى فارسًا يمتطي جواده، تلمع عيناه شوقًا، وكأنه يراها رسالة مقدسة أكثر من كونها رياضة. ولما كبر قليلًا، ألحقه والده بتدريب الصبية على ركوب الخيل، فكان من أجرأهم، يصبر على السقوط والآلام، ويعاود الكرة حتى يتقن الحركة.

وكان عمه أسد الدين شيركوه يلحظ هذا الشغف، فيأخذه أحيانًا إلى ساحات التدريب، ويُريه كيف تُدار المعارك. يقول له بابتسامة ممزوجة بالجد:

«ستكون فارسًا، يا يوسف. ولكن اعلم أن الفارس الحق ليس من يحمل السيف فقط، بل من يحمل مع السيف قلبًا عامرًا بالإيمان.»

فتتسع عينا الطفل وكأنه يعاهد نفسه أن يكون هذا الفارس الذي وصفه عمه.

ظهرت على يوسف صفات القيادة منذ نعومة أظفاره. كان الصبية إذا تشاجروا لجؤوا إليه ليحكم بينهم، فينصف أحدهم من الآخر بقولٍ رزين يدهش الكبار. وكان إذا لعب مع أقرانه، اختار أن يقودهم في تشكيل صفوف صغيرة، كأنها جند في معركة، ويأمرهم بالثبات كما يفعل القادة. فكان أترابه يحبونه، ويرون فيه عقلًا أكبر من عمره.

كثيرًا ما نظر إليه والده بإعجاب وهمس لأمه:

«إن لهذا الغلام شأنًا، كأني أرى في وجهه ملامح رجلٍ سيغيّر وجه الزمان.»

فتبتسم شمسة، وتجيب بثقة الأم الصالحة:

«هي بشارة يا أبا يوسف، ألم أقل لك إن الله سيمنّ علينا بولدٍ له قدر؟»

كبر يوسف قليلًا، فصار يتردد على مجالس الأمراء مع والده وعمه. وهناك سمع أحاديث الرجال عن الصليبيين، وعن جراح الأمة وآمالها في النصر. كانت تلك الكلمات تُشعل في قلبه جذوةً لا تنطفئ. وحين يعود إلى البيت، يجلس في ركن هادئ يتأمل: كيف يمكن أن يُشفى صدر الأمة؟ ومن عساه يكون ذلك الرجل الذي يرد لها عزتها؟

ولم يكن يدري أن القدر يُهيئه هو نفسه ليكون ذلك الرجل.

مرت أيام الطفولة سريعًا، لكنها تركت في قلب يوسف أثرًا لا يُمحى. كان مزيجًا فريدًا: عقلٌ تربى على العلم، قلبٌ صُقل بالقرآن، يدٌ اعتادت على السيف، وروحٌ رُبيت على الصبر.

كل لحظة من تلك الطفولة كانت كالحجر الصغير يُرصّ في بناءٍ عظيم. ومع كل دعاءٍ من أمه، ومع كل وصيةٍ من أبيه، ومع كل تدريبٍ على يد عمه، كان يوسف يقترب أكثر فأكثر من اليوم الذي سيقف فيه فارسًا حقيقيًا، وقائدًا ملهَمًا، وبطلًا تشتاق الأمة إلى ظهوره.

لم يكن القدر بعيدًا، بل كان ينتظره على أبواب شبابه، حيث سيبدأ طريقًا طويلًا، طريقًا يُكتب بدماء المجاهدين وصبر الصالحين، حتى يُعرف بين الأجيال باسم: صلاح الدين الأيوبي، بطل القدس وناصر الأمة.

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon