كانت بلاد الشام في ذلك الزمان تزهو بجمالها؛ جبالها شامخة كأنها تحرس القرى الوادعة، وأنهارها تنساب بين البساتين في صفاءٍ كصفاء القلوب المؤمنة. وفي هذه الأرض الطيبة، نشأ شاب من بيتٍ عريق، بيتٍ عُرف بالعلم والدين والكرم، اسمه نجم الدين أيوب.
كان أيوب طويل القامة، قوي البنية، يعلو وجهه وقارٌ مبكر، كأن في عينيه بريقًا يخبرك أن له شأنًا في الغد. لم يكن يلهو كما يلهو أقرانه، ولا يطلب من الدنيا إلا ما يُعينه على طاعة الله. ورغم مكانته بين قومه، بقي قلبه خاليًا من الزوجة التي يتمنى أن تكون رفيقة حياته. تساءل الناس:
«كيف لرجلٍ مثله أن يتأخر زواجه؟»
فيبتسم ويجيب بهدوء:
«ما أطلب جمالًا ولا مالًا، إنما أرجو زوجةً تقية، تعينني على ديني.»
وفي ناحية أخرى من الشام، نشأت فتاة صالحة تُدعى شمسة. كان وجهها يشرق بالحياء، وعيناها تشعّان بذكاءٍ صامت، كأنهما تبصران ما وراء الظاهر. ربتها أسرتها على حب القرآن، فكانت تُكثر من تلاوته في ليلها، وتبسط كفيها بالدعاء:
«اللهم ارزقني زوجًا صالحًا، أكون له نصيرًا في طاعتك.»
مرت السنون ولم يتقدم لها من يملأ قلبها يقينًا، فصارت بعض النساء يقلن لها مازحات:
«لقد تأخرتِ يا شمسة، ألا تخافين أن يفوتك العمر؟»
فتبتسم في سكينة وتجيب:
«الزواج رزق، وما كان رزقي ليضيع.»
اللقاء الذي خبأه القدر
لم يكن يعرف أحد أن خيوط الغيب تنسج خفية. ففي موسم الحج، التقى والد نجم الدين بوالد شمسة. تحدّثا طويلًا، ثم قال الأول:
«لي ولد شاب، لم أجد له بعد من تليق به.»
فأجابه الثاني:
«وأنا لي ابنة تنتظر من يعرف قدرها.»
كانت كلمات يسيرة، لكنها كانت بداية القدر. فما إن عادوا إلى بلادهم حتى تمّت الخطبة، واجتمع القلبان بعد انتظار طويل. يوم اللقاء الأول، شعر نجم الدين أن روحه تعرف هذه الفتاة منذ زمن بعيد، ورأت شمسة في ملامحه صدق الرجال ووقار المؤمنين.
-بيتٌ على الطاعة
لم يكن زواجهما زواج دنيا أو زينة، بل ميثاقًا بين روحين. في ليلة الزفاف، جلس نجم الدين إلى جوارها وقال:
«ما أردتك إلا سندًا حين أضعف، ورفيقةً في دربي إذا أظلم الطريق.»
فأجابته في طمأنينة:
«وأنا ما جئت إلا لأكون لك نصيرًا في الدنيا، وأملًا في الآخرة.»
ومنذ تلك الليلة، غمر بيتهما نور خاص. كان نجم الدين يعود من عمله فيجد في زوجته ملاذًا وسكينة، وكانت هي تستقبله بالكلمة الطيبة، وتشد من عزيمته بحديث ملؤه الثقة بالله. كثيرًا ما همست له قائلة:
«يا أبا يوسف، أشعر أن الله سيمنّ علينا بولد له شأن عظيم في هذه الأمة.»
فيضحك برفق ويقول:
«إن رزقنا الله ولدًا، فليجمع فيه إيمانك وصبرك، وشجاعتي وحزمي.»
استقرّ نجم الدين في تكريت حيث تولّى شؤونها مع أخيه أسد الدين شيركوه في خدمة آل زنكي. لكن القدر لا يمهّد لطريق العظماء إلا بالابتلاء. وقع حادث قتل على يد أحد الجنود، فغضب السلطان وأمر بنفي الأسرة كلها.
كانت ليلة حالكة، والريح تعصف، والزوجة الحامل تجلس على ظهر الدابة متعبة، بينما زوجها يقود الركب وفي قلبه قلق يخفيه عن عينيها. رفعت يدها على بطنها وقالت بصوتٍ متهدّج:
«لعل الله يجعل من هذا الولد فرجًا لنا وفتحًا للأمة.»
فأمسك يدها بحنان وقال بثبات:
«اصبري يا رفيقة دربي، إن الله لا يختار عباده عبثًا.»
خرجوا من تكريت مثقلين بالأسى، لكنهم حملوا في صدورهم رجاءً لا ينطفئ.
وصلوا إلى الموصل، حيث استقبلهم الأمير عماد الدين زنكي بترحاب، مدركًا أن هذه الأسرة أثمن من أن تُضيعها محنة. وهناك، بعد أيام قليلة، بزغ الفجر الذي انتظره القدر. وضعت شمسة مولودها، وارتفع صراخه الأول كأنه إعلان لولادة مرحلة جديدة في تاريخ الأمة.
حمله نجم الدين بين ذراعيه، نظر في ملامحه الصغيرة، وقال بصوت تغشاه الدموع:
«هذا يوسف… هبة الله لنا.»
لم يكن يدري أن هذا الطفل سيُعرف يومًا باسم صلاح الدين الأيوبي، وأنه سيكون القائد الذي يعيد القدس إلى حضن الإسلام، ويرفع راية الأمة بعد طول انكسار.
وُلد البطل لا في قصرٍ ولا بين رغد العيش، بل من رحم المحن، في ليلة نفيٍ قاسية. كأنما القدر أراد أن يعلّمه منذ اللحظة الأولى أن البطولة لا تصنعها الراحة، بل يَصهرها الابتلاء، وأن النصر يولد حين يُربى الرجال على الصبر واليقين.
وهكذا، لم يكن تأخر زواج نجم الدين وشمسة، ولا محنتهما في تكريت، إلا تمهيدًا لأجمل الأقدار: ميلاد رجلٍ سيكتب للتاريخ فصلًا جديدًا، ويعيد للأمة عزتها المفقودة.
Comments