الفصل الثاني : أنفاس الطفولة على طريق المجد

نشأ يوسف بن نجم الدين أيوب في بيتٍ مطبوعٍ على الصبر والإيمان، بيتٍ علّمه منذ اللحظة الأولى أن المجد لا يُهدى، وإنما يُنال بالتعب واليقين. لم يعرف رفاهية القصور ولا دلال المترفين، بل وُلد في محنةٍ، وترعرع بين شدائد الزمان، حتى كأن القدر أراد أن يصنعه على عينه، ويُهيئه لأعظم رسالة.

في سنوات طفولته الأولى، كان يوسف قريبًا من والدته شمسة، التي غمرته بحنانها، ولكنها لم تتركه يلين للدنيا أو يركن إليها. كثيرًا ما كانت تُجلسه إلى جوارها عند الفجر، بعد أن تؤدي صلاتها، وتفتح مصحفها، ثم تهمس له بصوتٍ عذب:

«يا بني، من أراد أن يكون عزيزًا، فليعتز بكتاب الله، فهو النور الذي لا ينطفئ.»

وكان قلب الطفل يتفتح مع كل آيةٍ يسمعها، فيحفظ ما استطاع، ويشعر أن هذه الكلمات تملأ صدره طمأنينة لا تشبه شيئًا من متاع الدنيا.

أما والده نجم الدين، فقد كان له الأثر الكبير في صقل شخصيته. كان يأخذه إلى مجالس الرجال، ويُجلسه في أطرافها، ليتعلّم من الأحاديث كيف يكون القائد، وكيف تُدار الأمور بالعدل والحزم. لم يكن يوسف يلهو مثل بقية الأطفال، بل كان ينصت بعينين متقدتين، كأنما يستوعب ما يقال ليبني عليه مستقبله.

وعندما كان يعود إلى البيت، كان والده يربت على كتفه ويقول له:

«يا يوسف، تذكّر أن الرجال يُعرفون في الشدائد، لا في أوقات الراحة. من أراد أن يقود، فليبدأ بقيادة نفسه.»

فتكبر في قلبه معاني الرجولة قبل أن يشتد عوده، ويشعر أن الله يعده لأمر عظيم.

حب الفروسية والجهاد

منذ صغره، كان يوسف مولعًا بالخيل. لم يكن يرى في صهيلها مجرد صوتٍ يطرب الأذن، بل نداءً يوقظ في قلبه العزيمة. كان يركض مع الصبية في ميادين الموصل، يتعلم ركوب الجياد، ويُمسك بالقوس والسهام، محاولًا إصابة الأهداف. ولطالما سقط وأصيب، لكنه ما استسلم يومًا، بل كان ينهض وفي عينيه بريقٌ يقول: «سأحاول حتى أنجح.»

لاحظ عمّه، أسد الدين شيركوه، هذه الروح المبكرة، فأخذه تحت رعايته، يعلمه فنون الحرب، ويروي له قصص الفاتحين. كان يقول له:

«يا يوسف، السيوف لا ترفعها الأذرع وحدها، بل ترفعها القلوب المؤمنة. إن أردت أن تكون فارسًا بحق، فكن أولًا رجلًا لله.»

فتشبّع قلبه بهذا الدرس، وأدرك أن البطولة لا تكون بالقوة فقط، بل بالنية الصافية، والعزيمة المخلصة.

علم وعمل

لم يكن يوسف محاربًا صغيرًا فحسب، بل كان عاشقًا للعلم. كان والده يحرص أن يجلس بين أيدي العلماء والفقهاء، يتعلم الفقه والحديث، ويستمع لتفسير القرآن. كان يجلس الساعات الطوال منصتًا، فإذا عاد إلى البيت، قصّ على أمه ما سمعه، فتفرح به وتدعو له أن يجعله الله من حماة الدين.

وكلما كبر عامًا، ازداد تعلقًا بالمعرفة. لم يكن العلم عنده ترفًا، بل كان يرى فيه الزاد الحقيقي الذي يُقوي قلبه ويهذب عقله. وحين كان ينظر إلى رجال زمانه، كان يُدرك أن من جمع بين العلم والسيف، فقد جمع سر النصر في الدنيا والآخرة.

كان يوسف مختلفًا عن أقرانه. إذا غضبوا، حلم؛ وإذا لعبوا، تذكّر أن له شأنًا أعظم من اللهو. كان صادقًا في قوله، حازمًا في أفعاله، لا يحب الكذب ولا يقبل الغش. وبهذا، أحبّه الناس، ورأوا فيه شخصية فريدة، وكأنهم يستشعرون أن هذا الصبي يُخبئ في داخله رجلًا عظيمًا ستشهد له الأمة يومًا.

ولطالما همست أمه لنفسها وهي تراه نائمًا:

«اللهم اجعله عبدك الصالح، وامنحه من القوة ما ينصر به دينك.»

وكان والده ينظر إليه بإعجاب ورضا، ويقول:

«هذا الغلام إن عاش، فسيكون له شأنٌ عظيم.»

وهكذا، نشأ صلاح الدين بين القرآن والسيف، بين العلم والعمل، بين الحزم والرحمة. طفولة حملت في طياتها ملامح رجلٍ لا تهيئه الحياة لمجدٍ شخصي، بل لرسالة كبرى تنتظره.

كان القدر ينسج خيوطه ببطء، ليصنع من ذلك الطفل الهادئ قائدًا عظيمًا. وكأن كل يومٍ يعيشه، كان خطوة على طريق طويل، ينتهي عند لحظة خالدة: يوم يُعيد القدس إلى حضن الإسلام، ويرفع راية لا إله إلا الله فوق أسوارها.

لقد كان يوسف بن أيوب طفلًا، نعم، لكنه كان طفلًا وُلد في رحم المحن، وكُتب له أن يكبر على أعين الله، ليصير صلاح الدين الذي سيُعيد للأمة عزتها المفقودة، ويكتب بدمه وسيفه قصةً لا تنطفئ من ذاكرة التاريخ.

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon