..."هل جننت؟ فتاة؟! هذه مدرسة سيتا للذكور!"...
...قالها الفتى الثاني بدهشة، وصدى صوته ارتطم بجدران المدرسة العالية، كأنها ترفض التصديق....
...أما الآخر، فأمسك بذقنه بصمت، وكأنه يحاول سحب صورةٍ من ذاكرة ضبابية....
...> "أعرف ما رأيت... الوجه، النظرات..."...
..."كانت فتاة، أنا متأكد."...
...ضحك صاحبه بتهكّم، لكن ضحكته لم تدم طويلًا....
...انشقّ السكون بصوت مألوف، خفّ صداه أولًا، ثم جاء واضحًا كطلقٍ خفيف في الفراغ:...
...> "بوووم! شين! أنتما هنا!"...
...ظهر جين إلبرت من خلف السور....
...شعره الأشقر يلتصق بجبهته، وعيناه... لا توحيان بأي ندم....
...خطواته كانت بطيئة، كأن الأرض نفسها تتنحّى لتفسح له الطريق....
...اقترب بصمتٍ مشوب بالهدوء، وكأن ضجيج اللحظة السابقة لم يمرّ من هنا....
...سأله أحد الفتيين بنبرة منخفضة، أشبه بالهمس:...
...> "هل انتهيت... مما كنت تريد فعله في هذه المدرسة؟"...
...توقّف جين لثانية....
...نظر إلى السماء، إلى شيء بعيد لا يراه أحد سواه، ثم مسح قطرة ماء من عينه بإبهامه وقال:...
...> "أجل... لكن لا أظنّها كافية له."...
..."سأعود لاحقًا."...
...لم يعلّق أحد. فقط نظرات ثقيلة... وخطوات غادرت معًا....
...لكن ما تبقّى في المكان لم يكن همسًا أو صوتًا... بل سكونٌ مريب، كأنّ الجدران سمعت شيئًا لن تنساه....
...⋯✦⋯...
...في مكانٍ آخر......
...جلس يونجي في مقعده قرب النافذة، ساكنًا كتمثال....
...لكن عينَيْه... كانتا تتنقلان من وجهٍ إلى آخر، إلى أن استقرتا على وجهٍ واحد....
...كاسيان بلايك....
...طالبٌ جديد انضم إلى الفصل مؤخرًا....
...شخصية مرحة، يضحك بسهولة، ويكسب القلوب بلا مجهود....
...لكنه لم يكن يعلم... أنه يملك شخصية كتلك....
...أو أنه قوي بهذا الشكل....
...كان دخوله أشبه بانفجار ضوء في غرفة مغلقة، ويونجي لم يكن مستعدًا لذلك....
...وفجأة، التقت عينه بعيني كاسيان....
...نظرة قصيرة....
...قصيرة جدًا....
...لكنها ارتطمت في صدر يونجي كأنها طعنة هواء....
...لم تكن مرحة. لم تكن فضولية....
...كانت فقط... صافية....
...صافية أكثر من اللازم....
...خفض رأسه فورًا، وتظاهر بالنوم....
...أغلق عينيه بشدة، كأن النوم درع من الحرج... من شيء لا يجب أن يظهر....
...> ولم يكن يعلم... أن تلك النظرة الصغيرة، ستظل تلاحقه طويلاً، بصمتٍ لا يشبه أي شيء آخر....
...⋯✦⋯...
...لاحقًا......
...انتهت الحصص، وخرج يونجي من البوابة الخلفية، يجرّ قدميه ببطء....
...غارقًا في دوامة من الأسئلة....
...لفح الهواء البارد وجهه....
...كأنّه يوقظه من شروده....
...ثم توقّفت أمامه سيارة سوداء فاخرة....
...لامعة كالمرآة....
...تعكس ملامحه الشاحبة....
...توقّف، وحدّق بها....
...حاجباه معقودان في حيرة....
...لا شيء في مظهره البسيط يوحي بانتمائه لتلك الطبقة....
...ثم صدر صوت من الداخل:...
...> "أدخل."...
...تردّد....
...نظر حوله....
...ثم فتح الباب، ودخل....
...أُغلق خلفه بهدوء، وكأن اليوم أُسدل عليه الستار....
...⋯✦⋯...
...وصلت السيارة إلى منزل ضخم بطابع أرستقراطي....
...حديقة واسعة، أعمدة تلمع تحت ضوء الغروب، وبهو يشبه قصور الحكايات القديمة....
...لكن بالنسبة ليونجي... لم يكن سوى قفص ذهبي....
...ترجّل ببطء....
...التعب يثقل كتفيه....
...لا تعب الجسد... بل شيء أعمق....
...توقّف أمام الباب. نفس المكان. نفس القلق....
...(هذا البيت... وهذه القوانين...)...
...تنفّس بصعوبة، ثم دخل....
...تحرّك الخدم فورًا....
...أحدهم أخذ حقيبته....
...آخر انحنى احترامًا....
...لكنه لم يرد....
...لم يكن غاضبًا منهم... فقط لم يكن حاضرًا....
...من أعلى السلالم، جاء صوت حاد:...
...> "أخيرًا أتيت."...
...رفع رأسه ببطء....
...كانت والدته....
...امرأة في الأربعينات، أنيقة المظهر، بشعر مرفوع وعينين خلف نظارات رفيعة....
...لكن نظراتها... حادّة كالسكاكين....
...لم تكن تنظر إليه كأم... بل كمسؤولة تراقب أداء موظّف ضعيف....
...قالت ببرود:...
..."اتبعني."...
...لم تكن دعوة... بل أمر....
...سار خلفها بصمت، كل خطوة أثقل من التي قبلها....
...دخلت إلى مكتبها — الغرفة التي لا يدخلها إلا حين يُتّهم، أو يُلام....
...فتحت درجًا ببطء، وأخرجت عصًا خشبية....
...تجمّد في مكانه....
...(كنت أعلم...)...
...قالت دون أن تنظر إليه:...
...> "افتح يدك."...
...ازدرد ريقه، بلّل شفتيه، ثم تمتم:...
...> "لماذا؟ ماذا فعلتُ لتعاقبيني؟"...
...استدارت إليه....
...نظرتها كانت أشد برودة من الكلمات ذاتها....
...> "وصلني أنك تغيّبت عن بعض الحصص."...
...نظر إلى الأرض، عضّ شفته كي لا ينفجر، لكن...
...داخله كان يصرخ:...
...(هذا ما يهمك؟ لم تسأليني حتى لماذا تغيّبت...)...
...مدّ يده....
...بعينين خاليتين من الرجاء....
...الضربة الأولى كانت حادّة....
...ثم الثانية، فالثالثة... حتى العاشرة....
...لم تنطق بكلمة، وكأن الألم وحده كان البلاغ....
...وحين انتهت، قالت بخفوت:...
...> "اذهب إلى غرفتك."...
...خرج من المكتب بصمت، يضغط بكفه الأخرى على يده المرتجفة....
...صعد الدرج كمن يهرب من ساحة معركة....
...دخل غرفته، أغلق الباب، وألقى بجسده على السرير....
...دفن وجهه في الوسادة... ليخفي دموعًا لم يجد الشجاعة لكبحها....
...مرّ الوقت ببطء......
...ثم، قطع الصمت صوت طرق خافت:...
...> "سيدي الشاب... والدتك أمرتني بإحضارك."...
...لم يجب....
...لم يرغب في رؤية أحد....
...> "أرجوك... إنها تنتظرك في غرفة الضيوف."...
...زفر يونجي تنهيدة طويلة....
...جلس على حافة السرير....
...الخوف القديم هو ما أجبره على النهوض....
...ذاك الخوف الذي شبّ معه، ولم يُغادره يومًا....
...رافقه الخادم بصمت، خطواتهما تتردّد في الممرات الهادئة....
...لكن... شيء في ملامح الخادم كان مختلفًا. كأنه أكثر توترًا من المعتاد....
...(غرفة الضيوف؟ من يكون؟)...
...حين وصلا إلى الباب، انحنى الخادم، ثم فتحه وانسحب....
...رفع يونجي عينيه......
...وتجمّد....
...كأن الهواء سُحب من الغرفة....
...أو كأن الزمن نفسه توقّف....
...جالسًا هناك، على الأريكة الجلدية، بملامحه الهادئة بشكلٍ مريب......
...وعيناه الحمراوان كجمرتين مشتعِلتين — كان كاسيان بلايك....
...وبجانبه، رجل غريب....
...ملامحه جامدة....
...وجهه كالقناع، وعيناه تراقبان يونجي بصمت....
...نبضات قلبه تسارعت....
...كأنها تدق على صدره لتُخرجه من جسده....
...(كاسيان؟ هنا؟ في منزلي؟)...
...لم يستطع التقدّم....
...ولا حتى أن يسأل....
...كل شيء في الداخل صرخ بالخطر....
...لكن ملامح كاسيان لم تُظهر سوى البرود....
...تلك النظرة... لم تكن زيارة عادية....
...[يتبع...]...
Comments