الفصل الثاني: وجبة لا تُنسى

في صباح اليوم التالي، كان الجوّ هادئًا في أكاديمية "فيرينوس".

لكن إياد لم يكن كذلك.

جلس في مقعده قرب النافذة، يحدّق إلى الفراغ، وداخل صدره شعور غريب لم يفهمه.

كان يحاول التركيز، لكنه لا يسمع شيئًا من الدرس… فقط صدى صوت ليانا في ذهنه:

> "ربما أردت أن أتناول الغداء معك."

همس لنفسه:

> "هل كانت تمزح؟… أم أنها جادة؟"

قطع أفكاره صوت خطوات رقيقة، ثم همسة قرب أذنه:

> "مرحبا أيها الحالم."

استدار بسرعة. كانت ليانا.

جلست بجانبه دون أن تنتظر إذنًا، وأسندت كوعها على الطاولة.

> "بما أنك لم تتناول شيئًا البارحة سوى خبز وجبن… هل ستدعوني اليوم إلى وجبة أكثر جدية؟"

احمرّ وجه إياد قليلًا، لكنه تمالك نفسه:

> "أجل... أستطيع تحضير شيء بسيط."

> "رائع. إذاً، العشاء عندك الليلة؟"

هز رأسه، لكنه لم يصدق نفسه.

ليانا… في منزله؟!

أي نوع من الجنون هذا؟

...

مع انتهاء الدوام، غادرا الأكاديمية معًا.

الطلاب يحدّقون، يتهامسون، بعضهم يضحك، وبعضهم يحسد… لكن ليانا لم تكن تبالي.

كانت تسير بجانبه بثقة، وكأنها تمشي معه منذ سنوات.

سلكا طريقًا جانبيًا بعيدًا عن العربات الفاخرة.

شارع بسيط، تحيطه الأشجار، وأصوات العصافير فيه أعلى من ضجيج المدينة.

وصلوا إلى منزله الصغير في حيّ "نارالين".

منزل متواضع، له حديقة صغيرة تملؤها نباتات نبتت بعشوائية، لكنها جميلة بطريقتها الخاصة.

وقفت ليانا أمام الباب:

> "المنزل... يشبهك."

نظر إليها باستغراب.

> "بسيط من الخارج... لكن فيه شيء دافئ."

...

في الداخل، بدأت ليانا تتجول بعينيها، تنظر إلى الصور القديمة، والأثاث البسيط، وكتاب فوق الطاولة عليه آثار حروق خفيفة.

> "هل هذا…"

أخذه إياد بسرعة، وأخفاها.

> "مجرد دفتر قديم."

ابتسمت بلطف، ثم جلست.

> "حسنًا، الشيف إياد، أرني ما لديك."

دخل المطبخ، وبدأ يُحضّر عشاءً بسيطًا: أرز، خضار مشوية، وقطع دجاج.

ليانا كانت تراقبه من بعيد، تبتسم على هدوئه وتركيزه، وكأن النار في داخله تتحول إلى دفء.

...

حين جلسا ليتناولا الطعام، كانت الأجواء مختلفة.

هدوء، ضوء خافت، وأحاديث بسيطة تحولت إلى ضحكات.

> "لم أضحك هكذا منذ مدة."

قالت ليانا، وهي تمسح دمعة من الضحك.

> "أنا لا أجيد الكلام كثيرًا."

رد إياد.

> "لكن حضورك يكفي."

همست.

في تلك اللحظة، ساد الصمت.

لكن ليس صمتًا غريبًا، بل صمتًا مريحًا.

نظرت إليه، ثم قالت:

> "هل تعلم؟ أنت لست مثل الآخرين."

– "أعلم…"

– "لا، أقصد… فيك شيء لا أستطيع تفسيره."

نظر إليها بعينيه الذهبية… للحظة، لم يُخفِ ناره.

أضاءت عيناه بشعلة خافتة، كأن شيئًا في داخله بدأ يتحرّك دون أن يشعر.

> "إياد… عيناك…"

أدار وجهه بسرعة، وخفض رأسه.

> "آسف… يجب أن تذهبي الآن."

– "هل قلتُ شيئًا خاطئًا؟"

– "لا… فقط، ليس الآن."

...

غادرت ليانا بهدوء، دون أن تقول شيئًا آخر.

لكن في قلبها، لم يكن هناك خوف… بل فضول أكبر.

أما إياد، فقد بقي جالسًا في الظلام، يضغط بيده على صدره:

> "لا أريد أن أؤذي أحدًا… لا أريد أن أؤذيها."

وفي ركن المنزل، صورة قديمة لوالده، تقف بجانب شمعة صغيرة بدأت تتوهج تلقائيًا…

في صباح اليوم التالي…

عاد كل شيء كما كان.

أروقة "أكاديمية فيرينوس" مزدحمة، الطلاب يمشون في فوضى أنيقة، الثرثرة المعتادة، نظرات الفضول…

لكن إياد كان يبحث عن شيء واحد: ليانا.

لم تكن في مكانها المعتاد.

ولم تلتفت إليه حين مرّ قربها في الممر.

تجاهلته.

كأن ما حدث البارحة لم يكن.

جلس في الصف، قلبه أثقل من كتبه.

مرّت الحصص ببطء قاتل، وكل ثانية تطرق صدره كأنها تقول: "لقد أفسدت كل شيء."

...

مع نهاية اليوم، لم يحتمل.

بحث عنها في كل أركان المدرسة، حتى وجد الباب الخشبي الكبير المؤدي إلى قاعة الرياضة مفتوحًا قليلاً.

دخل بخطى هادئة…

هناك، وسط القاعة الفارغة، كانت تجلس على الأرض الخشبية، ظهرها مستند إلى الجدار، شعرها مربوط بنصف رفعة أنيقة كعادتها، وعيناها تنظران إلى الأرض.

اقترب ببطء.

> "ليانا…"

لم ترفع عينيها.

> "أنت غاضبة، أليس كذلك؟"

صمت.

ثم قالت بصوت خافت:

> "كنت أظن… أنك تثق بي."

اقترب منها وجلس على الأرض قربها.

ظلّ ساكتًا لثوانٍ، ثم قال:

> "كنت خائفًا. لم أرد أن تري ما بداخلي…"

– "لكنني رأيت، إياد. ولم أخف."

رفع عينيه ببطء، نظر إليها.

كانت تنظر إليه مباشرة هذه المرة.

– "أنا مختلفة عن البقية، أليس كذلك؟"

– "نعم… مختلفة تمامًا."

ساد صمت خفيف، لكنه كان صمتًا ناعمًا، كأن الهواء نفسه أصبح أكثر دفئًا.

...

> "أتدري؟"

قالت ليانا، وهي تميل برأسها قليلًا.

> "أنا أيضًا خائفة أحيانًا."

– "من ماذا؟"

> "من أن لا أجد أحدًا يفهمني… لكنك، خلال وجبة واحدة، شعرت أنك الأقرب إليّ من كل من عرفتهم طوال حياتي."

اقترب أكثر، وكأن المسافة بينهما لم تعد ضرورية.

همس:

> "وأنا… منذ جلستِ بجانبي في الصف، شعرت أني لم أعد وحدي."

...

في تلك اللحظة، انخفض ضوء القاعة تلقائيًا، لأن نظام الإضاءة الأوتوماتيكي لم يرَ أحدًا يتحرك.

فأصبحت الإضاءة خفيفة جدًا، لا يرى منها سوى ملامح وجهها، وتوهجًا خافتًا في عينيها الزرقاوين.

اقتربت منه أكثر، لمست يده، وقالت:

> "إياد… لا تخف مني."

نظر إلى يديهما المتشابكتين، وقال بصوت خافت:

> "أنا لا أخاف منك… أنا فقط خائف عليك."

...

اقترب وجهاهما حتى أصبحا قريبين جدًا، أنفاسهما تتداخل، وقلبيهما ينبضان في نفس الإيقاع.

> "ليانا…"

– "نعم؟"

> "شكرًا… لأنك رأيتني، حين كان الجميع يتجاهلني."

ابتسمت.

ثم… لامست جبهتها جبهته، وأغلقت عينيها.

لحظة صامتة…

لا قبلة، لا كلمات، فقط صمت دافئ يشبه الاعتراف.

...

في تلك اللحظة، كانت قاعة الرياضة الخالية أدفأ من أي مكان آخر في العالم.

وفي قلبيهما، اشتعل شيء لم ينطفئ بعد.

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon