Flowers In Street
(لندن، عام 1907)
في الزاوية المضيئة من مكتبه الفسيح، جلس ألكسندر ماركليس، ذو الستة والخمسين عامًا، على كرسي جلدي ثقيل، يشي فخامته بصاحب المكان. كان الجلد يئن برفق تحت وزنه، ورائحة التبغ غير المحترق تملأ الجو بهدوء. في يده سيجارة لم تُشعل بعد، وأمام ناظريه فنجان شاي بارد، نُصفه مفقود كأن صاحبه نسي أمره منذ زمن.
النافذة الزجاجية الكبيرة خلف مكتبه كشفت جزءًا من لندن الرمادية، أبنية صامتة وسيارات نادرة تمر ببطء. حدّق ألكسندر خلالها، وعيناه الزرقاوان بدتا كأنهما لا تريان الخارج، بل تغوصان في مساحات داخلية موحشة. أوراق العمل على منضدته كانت مبعثرة بإهمال، أقلام، أختام، تقارير، لكنها لم تحظَ بأي اهتمام منه هذه الليلة.
كان رجل أعمال مرموقًا، يعرفه كبار المدينة، اعتاد التنقل بين صفقات كبرى وحفلات فاخرة، لكن في هذه اللحظة بدا كأنه نسي كل ذلك، أو لم يعد يعنيه كثيرًا.
وأخيرًا، وبحركة بطيئة، أمسك علبة الكبريت، وأشعل السيجارة. لامسها بشفتيه، وترك الدخان يتسلل إلى صدره، ثم يخرج منه بنفَس ثقيل، كما لو كان يتنهد دون أن يتكلم.
فجأة، انقطع سكون الغرفة بطرقات خفيفة على الباب.
لم يلتفت، فقط قال بصوت خفيض:
"ادخل."
فُتح الباب ببطء، وظهرت بارانا، زوجته. كانت في مثل عمره، ترتدي ثوبًا داكنًا أنيقًا يناسب المساء، وتحمل في يدها ظرفًا أنيقًا يبدو أنه رسالة.
خطت إلى الداخل بخطى متزنة، وأغلقت الباب خلفها بلطف، لكن ملامح وجهها كانت مشدودة بعض الشيء حين رأت السيجارة بين أصابع زوجها.
"يا إلهي، ألكسندر... يجب أن تتوقف عن التدخين."
قالتها بتأفف واضح، نظراتها تتنقل بين السيجارة والدخان المتصاعد ببطء.
لم يبدُ عليه الانزعاج. رفع حاجبه قليلًا، ثم قال بنبرة هادئة:
"لا تقلقي... لا أدخن سوى في أوقات الفراغ. وكما تعلمين، نادرًا ما أملك وقتًا كهذا."
أطفأ السيجارة في المنفضة الفضية أمامه، بحركة متأنية. ثم عاد يحدق في الظرف الذي وضعته بارانا الآن على مكتبه، دون أن تشرح شيئًا.
[السيد ألكسندر روليكس
لندن
عزيزي ابن العم،
آمل أن تصلكم هذه الرسالة وأنتم في صحة طيبة ومعنويات رفيعة. لقد مر وقت طويل منذ آخر تواصل بيننا، وأرجو أن يكون هواء لندن، رغم ما يشوبه من كآبة، لا يزال يروق لكم ويخدم مصالحكم على أحسن وجه.
اسمحوا لي أن أدخل في صلب الموضوع، الذي أثقل ضميري ودفعني إلى إمساك القلم هذا الصباح. يتعلق الأمر بفتاة شابة تحت رعايتي — الآنسة ماريا رولز — والتي، كما قد تذكرون، أصبحت يتيمة قبل أعوام في ظروف مؤسفة للغاية. ومنذ ذلك الحين، عاشت في كنف منزلي المتواضع هنا في يوركشاير، حيث نشأت لتصبح فتاة مهذبة، رقيقة، ومتواضعة السلوك.
لقد تم قبول ماريا مؤخرًا في مدرسة محترمة للأدب في لندن — وهي فرصة نادرة لواحدة في مثل وضعها. غير أنكم تعلمون جيدًا، يا سيدي، ما يرافق الحياة في المدينة من تكاليف وصعوبات، لا سيما حين يتعلق الأمر بتوفير سكن محترم لفتاة شابة، ونحن ـ كما لا يخفى عليكم ـ ذوو إمكانيات محدودة.
ومن ثم، أكتب إليكم اليوم بكل تواضع وأمل، لأسأل ما إذا كنتم تتفضلون بالسماح لماريا بالإقامة المؤقتة في منزلكم العامر، طوال فترة دراستها. ولولا يقيني بأنها ستكون فتاة هادئة، لا تثير الضوضاء، وتحترم نظام البيت وقيمه، لما تجاسرت على تقديم هذا الطلب. فهي، في كل جوانبها، فتاة طيبة الخُلق، رقيقة الطبع.
أدرك تمامًا أن هذا الطلب قد يكون عبئًا، ولو يسيرًا، ومع ذلك، لا أعرف في لندن مكانًا ستكون فيه بأمان أكثر من بيتكم.
مع خالص احترامي وتقديري،
داعيًا لكم بدوام الصحة والسداد،
المخلص دومًا،
روجر مرجن]
أنهى ألكسندر قراءة الرسالة بهدوء. لم يظهر على وجهه أي تعبير واضح؛ لا دهشة، ولا استنكار، ولا حتى شفقة. فقط حملق في الورقة لبضع لحظات بصمت، وكأن الكلمات ما زالت تتردد في ذهنه على نحو أبطأ من الواقع، أو كأنه يسمع صوت روجر يتهجى كل جملة من بعيد، من عمق الريف حيث الهواء أثقل، والأمل أضيق.
كان الدخان من سيجارته الثانية يتصاعد في دوامات متكاسلة، تعكس ما يدور بداخله: لا رفض ولا قبول، بل وقفة متأملة بين الماضي والحاضر، بين الحنين والغموض.
لكن ذلك السكون لم يدم طويلًا.
ضربة مفاجئة براحتي يدها على سطح المكتب أيقظته من شروده. ارتجفت الأوراق قليلًا، وارتجف معها جو الغرفة الهادئ.
بارانا، زوجته، كانت واقفة أمامه، تقاطعه بعينين ضيقتين يشوبهما شيء من التوتر والامتعاض.
قالت، وقد بدا على ملامحها ارتباك خفيف مُغطى بتجهم معتاد:
— "هل ستسمح لتلك الفتاة الريفية بالعيش هنا طوال فترة دراستها؟"
لم يرد على الفور. فقط أنزل عينيه إلى الرسالة مرة أخرى، كما لو أنه يبحث فيها عن إجابة، أو عن مبرر يليق بقوله. أما صوته، فبدا كما لو أنه سيأتي بعد قليل... ببطء، كما هي عادته.
...
Comments