خرج رِن من القصر، ووقف في أعلى السلالم الرخامية المؤدية إلى الباحة الكبرى.
أمامه… امتدّت مملكته، وادي الظلام. أرضٌ مغطّاة بالضباب الخفيف، تتنفس بهدوء تحت ظلال الأشجار السوداء والمباني القديمة المصنوعة من الحجر الداكن.
الجدران نُقش عليها تاريخ آلاف السنين، والرايات الملكية ترفرف دون صوت… كأن الهواء نفسه يخشى أن يزعج الهيبة.
بدأ رِن بالنزول. كل خطوة يخطوها، تنحني لها الرؤوس، سواء من مصاصي الدماء، أو من المتحوّلين.
لا أحد يجرؤ أن ينظر في عينيه… ولا حتى خدمه.
إلى جواره، كان يسير خادم متحوّل يُدعى إليفان، طويل القامة، عينيه بلون الفحم، جسده مرن كأن روحه لا تنتمي لشكلٍ واحد.
كان إليفان واحدًا من أقدم المتحوّلين الذين وُلدوا في الظلال… وواحدًا من القلائل الذين يرافقون الملك عن قرب.
قال الخادم بصوت خافت: "مولاي، قاعة الأعشاب تحت الترميم… وقوافل الجنوب وصلت هذا الصباح."
لم يردّ رِن. فقط أشار بيده، فتابع الخادم تقريره:
"والحراس عند الحدود الشرقية أرسلوا بلاغًا عن حركة غير معتادة. لا أحد اقترب… لكن الأشجار نفسها تغيّرت."
توقف رِن فجأة، وأدار رأسه باتجاه الممر الطويل المؤدي إلى شرفة المراقبة.
همس: "الغابة تنذر قبل أن تهاجم… شيءٌ هناك يتحرّك."
إليفان خفض رأسه باحترام، ثم قال بتردّد:
"هل ترغب أن أرسل من يحقّق؟"
ردّ رِن ببرود: "لا… من يقترب من الظلال، لا يعود. دعها تقترب أولًا."
ثم تابع سيره، وعلى وجهه ظلّ ابتسامة لا تُرى.
إليفان نظر إليه للحظة، ثم همس لنفسه:
"الهدوء الذي يسبق العاصفة… أعتدنا عليه هنا."
بينما تابع رِن خطواته نحو شرفة المراقبة، حيث يرى مملكته من الأعلى، كان إليفان يمشي خلفه… يراقب خطوات سيده بصمت.
لكن داخله… كان شيء آخر يغلي.
القلادة… أو بالأصح، السوار، اللامع حول معصم الملك، ما زال يُشعّ بضوءٍ غامض منذ تلك الليلة.
إليفان رمق السوار بنظرة طويلة.
"ذلك السوار... هو نقطة ضعفه الوحيدة. طالما هو يضعه، فهو ملك، لكنه ليس بكامل قوته."
ضغط إليفان على أنامله خلف ظهره، وتابع التفكير:
"إنه لا يخلعه… حتى في نومه. لكن لا بأس، ستأتي لحظة… لحظة ينسى فيها، أو يثق أكثر من اللازم."
اقترب أكثر، وقال بصوت هادئ:
"مولاي، هل ما زلت تثق بهذا السوار؟ بعد كل هذه القرون؟"
توقف رِن لثانية، ثم نظر له بنصف عين، دون أن يرد.
لكن إليفان تابع، وهو يختبئ وراء الاحترام الظاهري:
"أقصد… ما من قوة في هذا العالم لا تستهلك شيئًا منك. وأنت، مولاي… لست بحاجة لشيء يُثقلك."
رِن التفت إليه ببطء، وقال بصوت عميق:
"هذا السوار لا يُثقّلني يا إليفان… إنه ما يبقيني في توازن."
ثم اقترب منه أكثر، وأضاف بنبرة باردة:
"وربما… هو ما يجعلني لا أُفكر في خيانة من خلفي."
تجمّد إليفان للحظة، ثم انحنى رأسه مباشرة:
"لم أقصد شيئًا، سيدي… فقط كنت أطمئن."
رِن لم يعلّق. أكمل طريقه… تاركًا ظلالًا من الرهبة خلفه.
أما إليفان، فرفع نظره ببطء، وتجمعت في عينيه شرارة سوداء:
"سيحين الوقت… وسأنتزع ما يجعل قلبك ينبض من جديد."جلس لوسير على كرسيه الحجري، وأغلق عينيه لحظة، مستشعرًا تلك الطاقة القديمة التي ارتجفت عبر الهواء طاقة السوار.
"إنه يتحرّك… مجددًا."
قالها داخله، دون أن ينطق بها.
هو يعرف معنى ذلك. السوار… لا يُضيء إلا عندما يكون مصير الملك على وشك أن يتبدّل. ومتى ما تبدّل قلب رين… فإن موازين القوة، وممالك الثلاثة، كلها ستتغيّر.
لوسير رفع رأسه، وحدّق في ضوء الشمعة الذي بدأ يرتجف رغم سكون الهواء.
"لو تحدّثت… سيعود رين إلى ما كان عليه في شبابه. ضعيفًا أمام العاطفة… مندفعًا وراء الشعور."
"لكن إن صمتُّ… فقد ينكشف كل شيء، ويتحرّر ماضٍ ظننّاه مات."
ثم ابتسم بسخرية خفيفة، وقال لنفسه:
"ما أعقد أن تكون مستشارًا لملك… نصفه بشر، ونصفه لعنات."
أخذ المرآة الصغيرة من جديد، نظر إليها، فرأى في ضبابها روزالين… وجهها لا يظهر واضحًا، لكن هناك وهجًا غريبًا يربطها بذلك الضوء الذي ومض في السوار.
همس بخطورة:
"هي بدأت تقترب… ولو شاء السوار أن يختارها، لن يوقفه أحد. لا أنا… ولا حتى رين نفسه."
أغلق المرآة، وأخفى كل شيء، ثم قام من مجلسه، وقال بهدوء:
"الصمت… هو خياري الآن. فإن جاء الوقت، سيكون الكلام أثقل من أي حرب."
في الزاوية المظلمة من غرفة لوسير، حيث الضوء لا يصل، انشقّ الهواء كأنّه يتنفّس… وظهر طيفان شفافان، يشعّان بنور خافت.
كانا يقفان خلف لوسير، ينظران إليه دون أن يشعر بوجودهما. الملكة "جوري"، والملك "أريان"… والدا رين، أرواحهما محفوظة داخل السوار… لكن الآن، ظهرا لحظة، لمجرد أن يراقبا.
تقدّمت جوري بخطى هادئة، بصوتها الحنون، قالت بنبرة خفيفة:
"كما أنت يا لوسير… لا تتغيّر أبداً. تلاحظ… تحلل… وتصمت."
أدارت وجهها نحوه، وكأنها تراه من الداخل، ثم أضافت:
"لكنني أعلم… صمتك ليس خيانة. بل حماية."
اقترب منها أريان، نظر نحو لوسير وقال بصوت عميق مليء بالوقار:
"لكن احذر… إن عاد قلبه للنبض، لن يعود كما كان. رين الذي تعرفه، سيضعف… وسيبدأ باتباع القلب، لا العرش."
أغمض عينيه قليلًا ثم أكمل:
"لا نريده أن يُكسر… لا نريده أن يُغدر… لكننا نريده أن يعرف طعم الحياة."
جوري نظرت إلى زوجها، ثم إلى الفراغ بينهما، وهمست:
"أريده أن يتغير… أن يشعر… أن يحب… لا أريد لابني أن يبقى قاسيًا، معتمًا كالممالك التي يحكمها."
ثم التفتت إلى لوسير من جديد، وهمست بصوت يكاد لا يُسمع:
"كن معه، دائمًا. حتى وإن لم يسألك."
ومع آخر همسة، تلاشى الطيفان في هواء الغرفة، كأن الريح ابتلعتهما.
أما لوسير… فشعر بقشعريرة تمرّ في جسده، دون أن يعرف السبب الحقيقي.
رفع عينه نحو السقف… ولأول مرة، همس لنفسه:
"قلب الملك… سينبض مجددًا. فهل نملك نحن الوقت… لنكون مستعدّين؟"
في الجانب الآخر من العالم...
رن صوت المنبه بعناد في أذن روزالين، لكنها لم تستيقظ. بل ظلت تتقلب، تتوسد الحلم الأخير... حتى اهتز الهاتف على الطاولة الصغيرة بجانب سريرها.
فتحته بعين نصف نائمة...
عشرة مكالمات فائتة. كلها من "ليلي".
شهقت وهي تهمس:
"يا ويلتي... لقد تأخرت!"
قفزت من السرير، ركضت نحو المغسلة وغسلت وجهها بسرعة، ثم فتحت خزانتها وسحبت أول قميص وجدته للارتداء. شعرها الأشعث لم تكترث له، وربطته بسرعة بكعكة مرتجلة وهي تهتف:
"أقسم لك يا ليلي، لو ضربتني لما وصلت في الوقت، أنا أستحق!"
نزلت الدرج بسرعة خاطفة، وكانت رائحة الخبز المحمص لا تزال تعبق في المنزل، لكنها لم تتوقف، فقط أخذت قضمة من شطيرة على الطاولة، وصاحت:
"أمي! خرجت! لا تصدقي الساعة، الجامعة خدعتني!"
خرجت وهي تلبس حذاءها في الطريق، حقيبتها تتمايل على كتفها، وفمها لا يزال يمضغ.
وفي قلبها... تلك الخفقة نفسها التي لم تفارقها منذ البارحة.
فهمت الآن! خليني أكتب لك المشهد من جديد بلغة عربية فصحى جميلة ومناسبة لأسلوب الرواية:
فتحت روزالين باب المنزل على عجل، وما إن خطت إلى عتبة الدار حتى لمحت والدها واقفاً في الطريق يتبادل أطراف الحديث مع أحد الجيران، مبتسمًا، وصوته يحمل نغمة من المرح الخفيف.
لكنها لم تكد تلتفت إليه حتى سمعت خطوات سريعة تقترب، وإذا بصديقتها ليلي تقف عند حافة الرصيف، وملامحها متجهمة بعض الشيء.
قالت ليلي بلهجة ممزوجة بالغضب والقلق:
"أكنت تنوين أن تتركيني أنتظر كل هذا الوقت؟ عشر مكالمات يا روز، عشر!"
ابتسمت روزالين بارتباك وهي تغلق الباب خلفها، ثم قالت معتذرة:
"أعرف، أعرف… لقد غلبني النوم، ثم... لا تسأليني عن ذلك الحلم الغريب."
اقترب والدها منهما، ونظر إلى ليلي مبتسمًا:
"صباح الخير، ليلي. لا تلوميها كثيرًا، لقد بدت شاردة هذا الصباح... وكأنها كانت تسافر في عالم آخر."
نظرت ليلي نحو روزالين بتمعن، ثم قالت بهدوء:
"ربما كانت كذلك فعلاً…"
ثم أضافت بخفة، محاولة كسر التوتر:
"هيا، سنتأخر أكثر إن بقينا واقفتين هنا، وسأجعلك تدفعين ثمن كل دقيقة من الانتظار!"
ضحكت روزالين، رغم بقاء ذاك الشعور الغريب عالقًا في صدرها… إحساس بأن هذا اليوم ليس كغيره، وأن شيئًا ما ينتظرها، خلف ظلال الأشجار… أو في قلب القدر.
Comments