غادرت روزالين مبنى الجامعة مع صديقتها ليلي، خطواتهما متقاربة، وحديثهما ينساب برفق بين ضجيج الطلاب الخارجين والهواء الذي بدأ يبرد شيئًا فشيئًا.
كانت الشمس تنسحب خلف المباني العالية، ترسم أطيافًا برتقالية على الأرصفة، وتلقي بظل كل شيء طويلًا كأن الزمن نفسه يتمطّى أمامهما.
ضحكت ليلي وهي تمسك بحقيبتها المبعثرة:
ــ "أيّام الدراسة بدأت حقًا... لم أتوقّع أن يكون أول يوم بهذا الثقل!"
ردّت روزالين وهي تعبث بشريط حقيبتها الجلدية:
ــ "المعلومة كانت ثقيلة، والدكتور أثقل!"
ثم تابعت بنبرة خفيفة، كأنها تكلم نفسها:
ــ "لكن الغريب أن قلبي لم يكن مع المحاضرة... ولا رأسي."
نظرت إليها ليلي، تمعن فيها وكأنها تحاول فهم ما بين الكلمات، لكنها لم تُعلّق، فقط ابتسمت وربتت على كتفها.
في تلك اللحظة، تلقّت روزالين رسالة قصيرة من أخيها جايك يخبرها أنه سيذهب للتمشّي مع أصدقائه بعد المدرسة، فابتسمت وقالت لليلي:
ــ "جايك قرر تركنا وحدنا... فرصة لشراء الأدوات التي نحتاجها."
هزّت ليلي رأسها بحماس:
ــ "السوق سيكون ممتلئًا اليوم، لكن لا بأس... سنجد قارورات زجاجية جميلة لمستحضرات الأعشاب، وربما أشتري أنا أيضًا شيئًا لا أحتاجه، كعادتي."
سارتا باتجاه السوق الصغير القريب من الجامعة، حيث تمتد الأرصفة بمحاذاة الطريق المؤدي إلى الغابة... غابة كانت دومًا هناك، لا يتغير شكلها، لكنها لم تكن أبدًا بهذا الحضور من قبل.
توقفت روزالين فجأة.
عيناها ثبتت على الأشجار التي تحرّكت مع الريح، كأنها تهمس لها بشيءٍ لا يُسمع،
وكأن أغصانها تتمدد لتصل إليها... لتلمس قلبها، أو تأخذه.
الهواء تغيّر... صار أصفى، أنقى، كأن الغابة تلفظ أنفاسها الأخيرة في وجه العالم.
وقفت روزالين بصمت، تتأمل كل شيء دون أن ترمش،
شعرت بخفة في صدرها، وبرودة اجتاحت أطرافها،
كأن جسدها يستجيب لنداء خفي، قادم من الأعماق، لا من السطح.
اقتربت منها ليلي، ووقفت بجانبها، ثم نظرت للغابة هي الأخرى، وقالت مبتسمة:
ــ "هل تفكرين بالدخول الآن؟
أرجوكِ، إن كنتِ ستتزوجين شجرة، أخبريني مسبقًا لأكون وصيفتك!"
ضحكت روزالين، لكنها لم تنظر إليها.
كانت عيناها لا تزالان تراقبان رقصة الضوء بين الأغصان،
ثم تمتمت بهدوء:
ــ "الريح هنا تحمل شيئًا... لا أستطيع وصفه، لكنه... حيّ."
ليلي قرّبت رأسها منها وهمست:
ــ "هيا بنا، اليوم نشتري القوارير،
وفي المساء، نمرّ على المكتبة... أعدك أن أشتري لك رواية جديدة عن ممالك الظلام التي تحبينها
سارتا بعدها بهدوء نحو السوق، والحديث بينهما ظل خفيفًا، لكن نظرة روزالين الأخيرة للغابة... لم تكن كسابقاتها.
لأول مرة، شعرت أن الغابة تنظر إليها أيضًا.
وفي مكانٍ ما، بين الأشجار المتشابكة،
كان هناك ظلّ... يراقب.
صامت، لا يتحرك، لا يُرى...
لكنه كان هناك.
عادت روزالين وليلي إلى المنزل مع عبق المساء ما يزال يلاحقهما.
في المطبخ، كانت مائدة العشاء قد أُعدّت بدفء وحب.
جلست روزالين إلى الطاولة، بينما كانت مارغريت، والدتها بالتبنّي، تضع الصحون وتبتسم بحنان.
كان فيليب، والدها بالتبنّي، قد سبقهم إلى المائدة، يحمل بين يديه صحيفة المساء ويرتشف من كوب قهوته، وعلى وجهه ملامح تعب رجل يعمل كثيرًا، لكنه لا يبخل بالحب على عائلته.
قال فيليب بنبرة أبوية دافئة:
ــ "أهلاً بفتاتينا المغامرتين، هل أحضرتما السوق معكما؟"
ضحكت ليلي وهي تسحب الكرسي:
ــ "قاربنا على ذلك، لكن روزالين أرادت التحديق بالأشجار أولاً!"
رمقها فيليب بنظرة فضولية وهو يقول:
ــ "الغابة؟ كنتِ قرب الغابة مجددًا يا روز؟"
أجابت روزالين وهي تضع كيس الأعشاب جانبًا:
ــ "الهواء كان مختلفًا... وكأن الأشجار تتكلم."
نظر إليها فيليب للحظة، ثم ابتسم ابتسامة باهتة تخفي شيئًا عميقًا في صدره، وقال:
ــ "الغابة تحفظ أسرارها، يا صغيرة."
عندها تدخلت مارغريت لتكسر ثقل اللحظة:
ــ "العشاء جاهز، ولن أسمح لأحد بسرقة حساء الأعشاب!"
ضحك الجميع، وجلسوا حول الطاولة في دفء الألفة. تبادلوا أطراف الحديث، وأحاديث خفيفة عن الجامعة، عن الزهور، وعن آخر الكتب التي تبحث عنها روزالين.
وبعد العشاء، صعدت إلى غرفتها، أطفأت الأنوار عدا مصباحها الصغير، وجلست على سريرها.
فتحت الكتاب الذي اشترته قبل قليل، وقرأت بضعة سطور:
"حين ينحني ظل الليل فوق شغاف القلب،
تهمس الأشجار باسمها القديم،
ويبدأ السوار برعشة خفية،
تنذر بصحوة قادم لا يرحم..."
غابت عن عالم الواقع،
حتى شنف أذنيها صوت خرير الريح يتسلل عبر النافذة المشرعة.
أغلقت الكتاب، وضعت رأسها على الوسادة محاطة بآلاف الأسئلة.
بينما فيليب وقف عند باب غرفتها للحظات، يتأملها بصمت، قبل أن يغلق الباب برفق ويهمس في قلبه:
"كأن قدرك يقترب يا ابنتي..."
ثم انسحب تاركًا البيت يغطّ في هدوء المساء،
وغابةً بعيدة تُوقظ ظلًا نائمًا...
في تلك الليلة، بعدما غفت روزالين على صفحات الكتاب،
هبّت رياح مفاجئة حول الغابة...
لم تكن كأي ريح.
كانت كأن الأرض نفسها تتنفس، والظلال تنذر بشيء يوشك أن يبدأ.
في قلب تلك الغابة، خلف المدى الذي لا تبلغه أقدام البشر،
كان القصر الحجري العظيم ساكنًا كما هو...
سوى شيء واحد...
السوار.
كان مربوطًا حول معصم الملك وهو نائم،
فجأة... لمع السوار بضوء خافت.
ضوء لم يره أحد...
سوى الملك.
فتح الملك عينيه ببطء، رمش مرتين، ثم جلس على حافة سريره.
الضوء كان قد اختفى، لكنه شعر به.
نظر إلى معصمه... ثم رفع حاجبه بتعجّب.
ــ "غريب... لم يلمع هكذا منذ سنوات."
نهض بهدوء، غسل وجهه، وارتدى عباءته السوداء الثقيلة،
خرج من جناحه، ومشى في الممرات الحجرية الطويلة، خطواته صامتة، لا تسمعها الأرض.
دخل إلى القاعة الكبيرة حيث وُضعت صورة والدته "جوري" ووالده "آريان"، محفورة على لوح من الكريستال الداكن.
وقف أمام الصورة،
وتردد الصوت...
صوتٌ لا يسمعه إلا هو.
كان صوت أمه، ناعمًا، دافئًا:
"لقد تحرّك السوار، يا بني...
شخص ما لمسه... والرباط بدأ يتكوّن."
ثم لحقه صوت والده، عميقًا، حازمًا:
"ابقَ يقظًا، رين...
القدر لا يطرق الباب مرتين."
الملك رين، وقف ساكنًا.
لا يعرف عن أي رباط يتحدثان،
ولا من الذي لمس السوار...
لكنه شعر بشيء يتغيّر.
همس لنفسه:
ــ "الرياح... تحمل نداءً جديدًا الليلة."
ثم استدار، وغادر القاعة.
وفي معصمه،
كان السوار ينبض من الداخل...
غادر رين القاعة الكبرى، وخلفه طيفٌ من الأصوات لا يسمعها سواه.
رغم الصمت في الممرات، كانت خطواته توحي بثقل لا يشعر به إلا الملوك.
دخل إلى ساحة القصر، حيث يقف بعض الحُرّاس باحترام، يحيونه بانحناءة دون صوت.
عند بوابة القاعة الشرقية، اقترب رجلان:
الأول، طويل الجسد، عريض الكتفين، يرتدي درعًا أسود يحمل شعار العائلة الملكية
كان ذلك هو القائد رايڤن،
رجل الحروب، وصاحب السيف الذي لا يُغمد إلا بعد النصر.
والثاني، هادئ، ذو ملامح حادة ونظرات فاحصة، يرتدي عباءة رمادية ويضع خاتمًا يحمل نقشًا قديماً -
إنه المستشار لوثر، حافظ الأسرار، ومرآة القصر الصامتة.
انحنيا باحترام، ثم قال رايڤن بصوت جهوري:
ــ "مولاي، كما أمرت... تم رفع الحراسة عند حدود وادي الظلال، لكن ظهرت حركة غير مألوفة قرب الحافة الشرقية."
تدخّل لوثر بصوت هادئ:
ــ "والرياح هناك كانت غير طبيعية... حتى الأشجار بدت وكأنها تهمس."
رفع رين نظره إلى السماء التي لا تزال غائمة منذ الصباح، وقال بنبرة خافتة:
ــ "أشعر أن الأرض تُنذرنا بشيء... لكن لا وجه له بعد."
اقترب لوثر خطوة وقال:
ــ "وهذا هو الوقت الذي يجب أن نراقب فيه... لا أن نهاجم."
تبادل رين النظرات مع كليهما، ثم أدار وجهه نحو أروقة القصر، حيث يمتد الظل فوق الحجارة الباردة.
ــ "راقبوا كل ما يتحرك عند حدود الغابة...
ولا تُعلموا أحد... حتى أنا، لن أعرف شيئًا إلا حين يحين وقته."
انحنيا مجددًا...
ثم انسحبا.
وبقي رين وحده،
ينظر إلى معصمه...
حيث السوار ما زال ثابتًا...
لكن قلبه، ولأول مرة منذ زمن، لم يكن كذلك.
Comments