لقد تبعني ذاك الوغد

"إنّ الحظّ يبتَسِمُ لمنْ ڪان جريئًا شُجاعًا."

_دوستويفسڪي_

امتدت نظرةُ ديڤان القاتلة، تلك التي أُشتهر بها آل ڤيڪادروا، نحو ماري التي تجمّدت مڪانها ڪأنَّ الزمن

توقَّفَ حولها.

للحظةٍ وجيزةٍ، تسرّب إليَّ شُعورٌ غريب؛ ربما ديڤان ليس بتلك البلاهة التي لطالما نسبتها إليه.

بل إن شيئاً في تلك النظرة بدا لي وڪأنَّهُ يحمل لغةً خاصة، لغة تفهمها الأرواح دون حاجة إلى كلمات.

بخُطى ثَابِتة، وملامِحٍ جامدةٍ، تابع ديڤان السير صوب مڪتبِ المدير، وأنا أتبعُ خطواتِه، حتى وقفنا أمامَ الباب.

طرقهُ ديڤان بعزمٍ فإرتدَّ إلَيْنا صوتٌ غليظٌ يُشبِهُ زَئِيرَ مارِدٍ يَخْرُجُ من غَيَاهِبِ العدمِ.

"أيوجَدُ وحشٌ خلفَ الباب؟." همستُ داخِلِي، بينما أطيافُ الرَّهبةِ تَسلَّلَتْ إلى قلبي.

"تفضَّلْ."

إرتفعَ الصوتُ مِنَ الداخِلِ، فدلفتُ إلى الغُرفةِ، مُتردِّدَةً، قبل أن يتبعني ديڤان، الذي أحڪم إغلاق البابِ خَلفَه بحرڪةٍ لا تخلو مِن الهيبةِ.

في الداخل، جلس الرَّجُلُ الذي يفترَضُ أنَّهُ المدير، في صورةٍ تُذَڪِّرُ بلوحات عصر النهضة التي تحتفي بالعظمةِ البشرية.

ملابسُ أنيقة، وهِندامٌ شديدُ الإتقان، وشعرٌ بنيٌّ ينحدِر بعضُهُ ڪجدائل صغيرة فوق جبينه.

أما فڪّهُ الحاد، فقدْ بدا وڪأنَّهُ منحوتٌ بإزميلٍ فنان يبحثُ عن الڪمال.

قاطع شُرودي صوتُهُ الواثِق:

"ڪَيْفَ أُساعِدُڪُما؟"

ڪُنتُ على وشكِ أنْ أتحدّث، لڪِنَّ ديڤان، وڪعادتِهِ في إثارةِ غيظي، دفعني بِلطفٍ إلى الخلف، وأجاب نيابةً عني بصوتٍ ينضجُ

بالثقة:

"نحنُ طلاَّبٌ جُدد، سيدي. نرغبُ في معرفةِ الشعب التِّي ننتمي إليها."

حدَّق بنا المديرُ لثانيتين، ڪأنما يُحاول أن يستنطق الصمت بيننا بنظراته التي لا تعرف الهوادة، ثم مدَّ يدهُ ليقبضَ على سجلٍ ضخمٍ يعْلُوهُ عبقُ الزَّمن. قلّب صفحاتِه برتابةٍ محسوبةٍ، قبل أن يرفع عينيهِ ويسألَ بصوتٍ عميق ولڪنه رسميٌّ:

"الإسم؟ "

شعرتُ بثقلِ الڪلمة وهي تهبطُ على مسامعي، فقلتُ بإرباكٍ خافت لا يخلو من الحذر:

"كلارا ڤيكادروا."

توقف الرجل عن البحث فجأةً، ڪما لو أنَّ صوتي حرَّكَ شيئًا في داخله.

رفع رأسهُ ليُحدِّقَ مباشرةً في عيني، نظراتُهُ تزنني ڪأنها تبحثُ عن شيءٍ دفين.

ثم قال بهدوءٍ لم يخلُ من رهبة:

"أأنتِ ابنةُ هاينرش ڤيكادروا."

ترددتُ للحظةٍ، ليس خوفاً، إنما ارتباڪًا لا أعرِفُ مصدره.

ڪيف علم بذلك؟ هل ڪانت ملامحي تحملُ شيئًا من أبي؟

أم أنَّ أمي قد تركت أثراً لا يُمحى في ذاڪرةِ هذا المڪان؟

"نعم."

أجبتُ بنبرةٍ حاولتْ أن تبدو واثقة.

ترڪني بصمتي وأنا ألتقطُ أنفاسي، ليحوِّل بصره إلى ديڤان.

شيءٌ مافي في وجه المدير تغير، مزيجٌ غريب من التَّعرُّفِ والحذر اِرتسم على ملامحه، قبل أن ينطق وڪأنه يعيد إڪتشافه:

"وأنت؟، ابن هانز؟."

أومأ ديڨان برأسِهِ، ذلك الإيماء الجاف الذي لا يقول شيئًا ولا يترك مجالاً للتأويل.

المدير، الذي بدا ڪمن يتقمَّصُ الوِدَّ ببراعة أقل من المطلوب، ارتسمت على وجههِ ابتسامةٌ باردة

وهو يقول:

"أدعى ديڤيس ڪيزو، وأنا مدير هذه المؤسسة."

اِبتسَمتُ لهُ برِفق، بينما بقي ديڤان ڪالصخرةِ، وجههُ منحوتٌ في جمودٍ.

ملامحهُ لم تحمِل أيَّ إشارةٍ، لا وِدٍّ ولا إستياءٍ، ڪأنَّهُ ڪيانٌ خارج حدود المشاعرِ البشرية.

نظرتُ إليه وهو واقفٌ بجانبي، تتناثر حولهُ تلك الهالةُ المُربڪة.

إنه لا يُخيفني، لڪنَّهُ يُربڪُني، يُثير في داخلي تساؤلاتٍ لا تنتهي

ڪيف يمكن أن يڪون شخصٌ بهذا القدر من الغموض؟

ڪأنه ڪتابٌ مغلق بأقفالٍ لا عدد لها، وڪلَّما إقتربتُ من أحدها وجدتُ مفتاحها قد تبخَّر في الهواء.

تبًا... لماذا لا أستطيع فك شيفرتِه بسهولة؟

عندما خرجنا من غرفة المديرِ ڪيزو، أرشدنا إلى مڪان فصولنا.

تقدمتُ بخطواتٍ حذرة، وڪأنني أهربُ من حضورهِ المتسلطِ، غير أنني لم أستطِع الفرار طويلاً، إذ سُرعان ما إصطدمتُ بشيءٍ صلب.

رفعتُ رأسي ببطء، وعلى الفورِ، ارتسمت على عينيَّ صورةُ فتى طويل القامة، يڪادُ يلامسُ السحاب بهيبته.

هل هو لا عب كرةِ سلة؟

لقد أرغمتني قامتُهُ على إرْجاعِ رأسي للخلف حتّى شعرتُ بألمٍ في عُنُقِي، بينما هُوَ، ڪتِمثالٍ من رخام، ألقى عليّ نظرةً خاليةً من أيِّ تعبيرٍ، لڪنَّها مُشَبَّعةٌ بشيءٍ من الغرابةِ المقلقةِ.

تراجعتُ خطوتين، تارڪةً مسافةً بيننا، مسافةً بدت لي ڪحاجزٍ يحميني من حضورِهِ الذي أثقل الهواء من حولي.

أدخل الفتى يديهِ في جيبه بطريقةٍ تنُمُّ عن لامبالاةٍ متعمدة، ثم بقيَ في مڪانه ڪأنَّهُ يتأمَّلُني، أو رُبَّما يتجاهلُني عن قصدٍ.

شعرتُ انَّ الإنحناء هو السبيلُ الوحيد لإستعادةِ توازُني، فإنحنيتُ بخجلٍ وهمستُ بصوتٍ يڪادُ لا يُسمع: "آسفة على الإصطدامِ بك."

لڪن ما إن رفعتُ رأْسي، حتَّى وجدتُ المڪان خالياً منهُ.

أين ذهب؟

إلتفتُ بذهولٍ خلفي، فرأيتُهُ يواصِلُ طريقهُ، متجاوزاً إياي دون أدنى إلتفاتةٍ، وڪأنَّهُ لم يڪن هنا أصلاً.

ڪم ڪان تصرُّفًا حقيراً، دنيئًا، يليقُ تماماً بِطُلاّبِ هذِهِ الثانوية الملعونة!

أُوه أيًّا يَڪُن!

وأخيراً، وقفتُ أمام بابِ الفصل.

شعرتُ للحظةٍ أنَّ هذا الباب ليسَ مدخلاً عادياً، بل حدٌّ فاصل بين عالمين.

ڪان عليَّ أن أطْرُقهُ، وڪأنني أستأذِنُ في دخولِ قدرٍ جديد قد لا أملكُ فيهِ سوى أن أُراقبَ نفسي وأنا أُعادُ تشڪيلُها كن جديد.

طرقتُ الباب بِخِفَّةٍ، وڪان لصوتِ

الطَّرقِ صدى بدا وڪأنه إنعڪاسٌ لوحشتي الداخلية.

جاءني صوتٌ من الداخل يأذن بالدخول، صوتٌ بدا مُحايداً لڪنه لم يخفِ نبرة الترقب.

دفعت الباب بخطوات ثقيلة، وڪأنني أزحفُ نحو أرضٍ غريبة.

ابتسامة مصطنعة إرتسمت على وجهي، تلك الإبتسامة التِّي صارت ڪحملٍ أضعهُ فقط عندما أضطر، وحينها بالڪاد تبدو ڪأنها تعبيرٌ إنسانيٌّ.

إنحنيتُ برأسي نحو الأستاذ الذي وقف امام السبورة، ملامحه غارقة في هدوء لا يخلو من قوة.

رد التحية بإيماءة خفيفة، كمن إعتاد على ذلك المشهد، لڪنه كان يراقبني بعينين لا تخطئان، عينين شعرتُ لوهلةٍ أنهما تحاولان قراءة ماوراء ظهري.

"هل ترغبين في التعريف عن نفسك؟"

سألني بنبرةٍ خالية من الحماس، لكنها حملت نغمةً تُرغمك على الرد.

رفعتُ نظري نحوه، وبكل برودٍ كان مناقضًا تمامًا التوتر الذي إجتاحني داخلياً، نطقتُ: "لا."

كان لڪلمتي وقع الحجر على سطحٍ ساڪن.

توقفتُ للحظة قبل أن أُڪمل بنبرةٍ متماسڪة، لڪن بداخلها شيءٌ غريب: "إسمي موجود بالقائمة، وأعتقد أن الطلاب هنا لديهم ما يڪفي من الإنزعاج بسبب مقاطعتي."

"لا أرى داعياً لمزيدٍ من التوتر."

لم يبدُ عليهِ الإستياء، بل اكتفى بإيماءةٍ صغيرةٍ وڪأنه يعترف بما قلته دون ان يتفق معه تمامًا.

شعرتُ للحظةٍ أنني مررتُ بهذا الإمتحان بنجاحٍ، رغم أن أعين الطُّلاَّبِ ڪانت تُثقِلُ ڪاهلي بنظراتٍ تحملُ ڪلَّ صنوفِ الفضولِ والتهكم.

"اجلسي هُناك ڤيكادروا."

قالها وهو يتفحَّصُ القائمة، ثمَّ أشار إلى مقعدٍ بجانبِ نافذةٍ نصف مفتوحةٍ.

خطوتُ نحو المقعدِ، كانت خطواتي تبدوا لي أصداءًا لماضٍ يُلاحقني، وها أنا أجُرُّهُ معي نحو مقعدي.

هناك ڪان يجلسُ شابٌ برأسهِ المائل على الطاوِلةِ، نائِمًا ڪأنما العالمُ بأسره لم يعد يعنيه.

حدَّقتُ فيه للحظة. رائع!

فڪَّرتُ بسخريةٍ، هذا أفضلُ شريك مقعدٍ يمكن ان احصل عليه.

على الأقل لن يُزعجني بثرثرةٍ لا طائل منها.

لڪن عقلي ڪعادتِهِ، أبى إلا أن يجُرَّني نحو الماضي. آرابيلا... آه،

تلك الحمقاء!

تذڪرتُها تجلسُ بجانبي في الفصل القديم، تراقبني بعينينِ مليئتين بالڪراهيةِ، وتصفعني في يومٍ لم أنسهُ قط.

كل ذلك لأنني رفضتُ حبيبها الذي خاول خيانتها معي.

حاولتُ ان انفض تلك الذكرى، لكن عقلي كان يُخبئُ لي صدمةً أكبر.

فجأةً، رفعتُ بصري نحو زاوية الفصل. هناك كان يجلسُ هو....

ليوس جونز.

توقفتُ للحظة، كل شيءٍ داخلي تجمد.

كيف؟ لماذا؟ هل تبعني إلى ألمانيا!

أم إن القدر قرر أن يلُقي بي في دوامةٍ اخرى من سخريتهِ السوداء؟

كان يتحدثُ مع فتاة تجلسُ الى جانبهِ، تبتسمُ له، تهمسُ بشيءٍ لا أسمعُه.

ربما هي حبيبته الجديدة؟

لا يهمني، لكن وجوده هنا بجد ذاته يكفي ليجعل انفاسي ثقيلة.

"ڤيكادروا، جونز، جونسون."

ذكر الأستاذُ أسماءنا قبل أن يزعمَ المغادرة، صوتهُ يتردد كصدى في رأسي.

إلتفت ليوس نحوي، نظراتهُ كانت هادئة لكنها تحملُ شيئًا يصعُبُ تفسيرهُ.

شعرتُ وڪأنهُ يحاول قراءة أفكاري،  أو ربما فقط آرباك توازني.

"على ڪلٍ منكمْ أنتم الثلاثة مغادرة الفصلِ بعد الإنتهاءِ منه مع

ڪايل رونز الذي سيُريكم الثانوية."

قاطعَ صوتُ الأستاذِ دوامةَ أفڪاري، فجأةً وڪأنهُ يحاولُ أن يقول لي ڪفاكِ تفكيراً بتلك الأمور.

"أستاذ لم أسمع إسمك بعد."

قالتها جونسون بصوتٍ بدا وڪأنه يحاول إستدراك دا فاتهُ من كلمات.

ابتسم الأستاذ، ابتسامةً بدت ڪأنها خرجت من صورةٍ قديمة، ثم قال بنبرةٍ جعلت المكان كله يصمت وڪأنما الزمن توقف:

"آريوس باخ."

كان لوقع اسمه سحرٌ غريب.

شعرتُ وڪأنني اسمع نغمةً قديمة، تذكرني بأشياء لا أستطيع تحديدها. لم يكن مجرد اسم عادي بل بدا ڪانه انعكاس لشخصيته، ذلك الوجه الحازم، والعينين الزرقاوتين اللتين تحويان بُعداً لم أستطع الغوص فيه.

رحل الأستاذُ وبقيتُ وحيدة وسط زحامٍ من الهمساتِ والأسئلة التي تُلاحقني.

"أنتِ كندية، أليس كذلك."

قالتها فتاة ذاتُ نمشٍ وعينينِ بنيتين وهي تقتربُ مني بإبتسامة فضولية.

نظرتُ اليها للحظة، ثم اخذتُ نفسًا عميقًا.

كانت الكلمات في رأسي تتصارع، تحاول ان تشق طريقها، لكنني فقط أردتُ الصَّمت.

الى هنا نصلُ الى نهايةِ الشابتر 3

دُمتُم بخير آسفةٌ للتأخير آمل أن تتفهموا.

السبب الدراسة للأسف.

إستمتعوا بالفصل ✨

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon