بعدما قررت الخروج لاستكشاف المدينة، شعرت بشيء من الحيرة والتشويش. كنت أريد التأكد أنني في نفس المكان الذي عشته طوال حياتي. عندما سرت في الشوارع المألوفة، شعرت وكأن الزمن توقف هنا. كل شيء كان كما هو، ولا شيء تغير. أما عني، فكنت أشعر بالاختلاف العميق؛ كنت عائدًا إلى الماضي، لكن عقلي كان مليئًا بكل الذكريات والأحداث التي ستحدث في المستقبل.
بينما كنت أتمشى في الشارع الضيق، لفت انتباهي فتاة صغيرة، كانت تجلس على الرصيف وتحاول أن تحبس دموعها. اقتربت منها وسألتها بلطف: “أنتِ بخير؟”
رفعت عيونها المملوءة بالدموع وقالت بصوت متقطع: “أنا ضايعة… ما أعرف وين أختي.”
شعرت برغبة قوية لمساعدتها، وقلت لها: “لا تخافين، أنا راح أساعدك. وين آخر مكان شفتِ فيه أختك؟”
أشارت إلى الزاوية المقابلة، حيث كان هناك سوق يعج بالحركة. “كنت هناك، وبعدين اختفيت.”
بدأت أسير معها في الشارع، محاولًا أن أهدئها. وبعد فترة قصيرة من البحث، ظهرنا أخيرًا أمام فتاة أخرى، بدت أكبر سنًا. كانت ملامحها حادة وجميلة، وعيونها تلمع بالقلق. لكنها لما رأتني أمسك بيد أختها، تغير وجهها فجأة.
“من أنت؟” قالت بصوت غاضب، ثم تابعت: “ليش ماسك يد أختي؟”
شعرت بالارتباك، لكنني حاولت أن أبين لها أنني فقط كنت أساعد أختها، “كنت فقط أساعدها، لأنها كانت ضايعة.”
لكن ردت سيلينا، وهي الأخت الكبرى: “إيش جابك هنا؟ ليش ماسك يدها؟ أكيد في شيء غلط.”
حاولت أن أوضح الموقف: “أنا ما سويت شيء غلط، كنت بس أساعدها علشان هي كانت ضايعة، ما في شي عادي في الموضوع.”
لكن سيلينا لم تصدقني، وكان واضحًا أنها مشبعة بالغضب. “ما دامك شخص غريب عننا، ليش تدخلت؟ إنت ما تعرفنا!”
“أنا بس حاولت أكون لطيف وأساعد. يعني، مو كل واحد في الشارع هو شخص سيء!” قلت وأنا أحاول تهدئة الموقف.
لكن يبدو أن سيلينا كانت عنيدة جدًا في موقفها، فقالت بغضب: “تعتقدني بصدقك؟ إنت جاي تتظاهر أنك طيب، لكن أختي ما كانت ضايعة قبل ما تجي!”
كانت بداية سوء الفهم الذي سرعان ما تطور إلى كره بيننا. شعرت بالغضب من الطريقة التي تعاملت بها سيلينا معي، ولكن في نفس الوقت فهمت أنها كانت تحاول حماية أختها.
لكنني لم أكن مستعدًا لقبول هذا الموقف بسهولة، فقلت: “أنتِ على حق، ممكن أكون غلطان. بس كان عندي نية طيبة، وأنتِ ليش تعتقدين الأسوأ عني؟”
سيلينا لم تجب مباشرة، بل اكتفت بتعبير وجهها العصبي، وأخذت أختها الصغيرة وقالت لها: “خليكي بعيد عن هذا الشخص.”
بينما كنت أراقبهم، شعرت بأن الأمور بدأت تتعقد أكثر. الآن بيننا سوء تفاهم كبير، وكل محاولاتي للتوضيح كانت تزداد تعقيدًا. وعلى الرغم من كل شيء، كنت أعي أنني لن أستسلم، لأنني أردت أن أكون على صواب.
وصلنا لمرحلة الهواش اللي خلاص ما فيها شيء منطقي، زي هواش الأطفال اللي في الحي بس بأصوات مرتفعة وأعصاب مشدودة، بس هذه المرة إحنا كبار!
سيلينا كانت لسا متمسكة بكلامها وقالت بصوت عالي: “طيب يا أخي، شلون تطلع فجأة وتساعد أختي كأنك بطل؟ انتو عارفين اللي مثلك دايمًا يكون عنده نوايا خفية!”
رحت أقول وأنا مرفوع حاجبي: “نوايا خفية؟ إنتي تبين تصدقين إن كل واحد يساعد لازم يكون عنده نية سيئة؟ أنا ما جيت هنا علشان أختطف ولا أسوي لك مسرحية. أنا كنت بس أساعدها علشان ما تضيع!”
ردت سيلينا بشكل عصبي: “ها؟ تقول مسرحية؟ شوف يا عم، مو كل واحد يقعد يساعد يكون بريء! وانت جاي هنا وساكت ليش؟ أكيد في شي!”
سكت للحظة وحاولت أهدئ أعصابي، بس بعدين جاوبتها: “يقولون إذا نطق الساكت تجرح كلماته! بس والله إني ما كنت أظن إنه وصلنا لهذا المستوى. والله العظيم إني لو كنت ناوي على شيء، كنت رح أشرح وأوضح من أولها.”
سيلينا تحركت خطوة خطوة نحوي، وعيونها مليانة تحدي: “أيوه، فهمنا! وانت دايمًا تحاول تبين إنك بريء! بس الناس اللي زيك ما تسكت على طول، عندك سيف في يدك وتخبي نفسك وراءه!”
صارت أختها الصغيرة تحاول تتدخل، تقول: “سيلينا، خلاص! هو بس ساعدني، ليش كذا تعصبين؟”
لكن سيلينا كانت متفجرة أكثر وقالت: “أنا أحمها، وأنتِ اللي لازم تصدقين كلامي! أنا عارفة، أنا أكثر وحدة تعرف عن الناس!” ثم نظرت لي وقالت: “وأنت ما تقدر تكذب علي! أعرفكم كل واحد وش له نية!”
حاولت أضحك وأقول: “يا بنت الحلال، إنتي ما تعرفين عني شي، ولا حتى أختك تعرف، فجأة كذا صار عندك نظرية عن حياتي؟ ترى أنا أصلاً ما احتجت أشرح لأحد، بس أنتِ اللي جالسة تحطين كل شيء في رأسي بطريقة غلط!”
سيلينا كانت لا زالت متمسكة بوجهة نظرها وقالت بصوت خشن: “ما رح أصدقك، خلاص! إذا كنت بريء زي ما تقول، خليها تشوف لك دلائل، مو بالكلام الفاضي دا!”
في النهاية، أختها الصغيرة حاولت تمسك أعصاب سيلينا، وقالت لها: “خلاص، خلينا نروح نبحث عن الطريق… وش فايدة الجدال ذا؟”
أنا بصراحة ما قدرت أوقف ضحكتي في النهاية على الهواش اللي كان شكله مثل هواش الأطفال اللي يختارون الألوان. قلت وأنا أمشي: “ما توقعت الهواش يصير كذا! يعني لو كنت في مكانهم، كان نفسي ما أتعامل مع الناس زي كذا. خلونا نطلع من هنا قبل ما تسوي لنا مشكلة ثانية!”
وسيلينا لا زالت تتمسك برأيها، لكن الآن شعرت بشيء غريب. كأن كل واحد فينا صار يتعامل مع الآخر بطريقة غريبة، وبالمختصر، هو مثل هواش الأطفال بس بأعصاب كبار.
سيلينا سحبت أختها الصغيرة بسرعة، وكانت تقول لها: “يلا، تعالي، ما فينا نقعد هنا أكثر من كذا! هذا مو مكاننا.”
أختها الصغيرة كانت تلتفت لي بنظرات مستغربة، لكنها ما قالت شيء. سيلينا سحبتها وراحوا يمشون بسرعة، كأنهم يبغون يهربون من الموقف، وأنا من جهتي ما كان عندي نية أتبعهم.
ظللت واقف في مكاني شوي، متأمل في كل شيء حوالي. كيف صار هذا اليوم؟ كيف إننا وصلنا للمرحلة هذه؟ من جد، أحس كأننا عايشين في مسلسل، وكل واحد فينا عايش في قصة مختلفة، لكن في نفس الوقت، كلنا في نفس المكان.
بعد شوي، قررت إني أغادر. تركتهم يروحون وقلت في نفسي: “ما فيه فايدة في الجدال، خليني أكمل يومي وأكتشف أكثر.”
بينما كنت أمشي في الشارع، فكرت في شيء غريب. يمكن اللي صار كان بداية لمواقف كثيرة رح تحصل في الأيام الجاية. يمكن كل شيء صار على ما هو عليه لأنني رجعت بالزمن، لكن مع ذلك، ما حسيت إني اقدر أغير كل شيء. يمكن السكة اللي أنا ماشي فيها هي نفسها اللي ما كان لي فيها خيار.
وأنا أمشي، كان في شعور غريب جواتي. كأني عرفت إنني ما رح أقدر أهرب من الماضي مهما حاولت، لكن في نفس الوقت، كان عندي أمل إني أغير بعض الحاجات.
وقفت لحظة، وقلت في نفسي: “أنا لازم أكون حذر وأتأكد من كل خطوة. الأمور هذي ما راح تخلص بسهولة، وعندي فرصة ثانية، ما أقدر أضيعها.”
وبكذا، قررت أكمل طريقي بعيد عنهم. سيلينا وأختها راحوا في طريقهم، وأنا في طريقي، وكل واحد فينا يسعى لشغله، لكن الحقيقة إننا كلنا في رحلة واحدة، يمكن نلتقي فيها مرة ثانييه
بعد ما رجع للمنزل، دخل الغرفة وهو يحس بالارتباك، لكن في نفس الوقت كان فيه شعور بالراحة. كانت أمه في المطبخ تحضر العشاء، وكان الجو هادي والوقت بدأ يمر بسرعة.
جلس على الأريكة شوية، وتفكيره مشتت بين اللي صار اليوم وبين الأشياء اللي ممكن تحصل في الأيام الجاية. ثم قام ودخل المطبخ، وقال لأمه:
“أمي، تبغين مساعدة في العشاء؟”
أمه رفعت عينها من الطباخة وقالت بابتسامة: “يا ولدي، تعال هنا بس، قعد وريح، أنا خلصت كل شيء تقريباً.”
جلس على الطاولة، وهو يحاول يعوض أمه عن اليوم الطويل، وفي نفس الوقت يحاول ينسى كل اللي حصل. العشاء كان بسيط، لكن كان لذيذ. حس بشيء غريب لما شاف أمه تبتسم له، وكأنها كانت تلاحظ إنه فيه شيء مختلف فيه. لكن هي ما سألت، وعرف هو إن هذا الوقت مش مناسب للتحدث عن أي شيء.
بينما هم يأكلون، ظل في تفكيره شيء واحد: “وين أبويا؟ ليش ما رجع من العمل؟”
سأل أمه: “أمي، أبويا متى راجع؟”
أمه أجابت بابتسامة حزينة: “ما أدري، يمكن يتأخر اليوم. عنده شغل كثير في المكتب.”
وهنا حس بشيء غريب، لكن قرر ما يضغط على أمه أكثر. بعد العشاء، غسل يده وقرر إنه يروح ينام بدري عشان يكون جاهز للمدرسة بكرة. دخل غرفته وهو يحاول يطوي صفحة اليوم اللي كان مليء بالمفاجآت.
ركب نفسه على السرير، وسحب اللحاف عليه. فجأة، شعر بشيء من التوتر. هل يقدر يواجه المدرسة بكرة؟ هل كل شيء راح يتغير؟ هل هالمرة ممكن يأخذ القرارات الصح؟
لكن في النهاية، أغلق عينه وأخذ نفس عميق، وقال لنفسه: “خلاص، اليوم خلص، بكره يوم جديد. لازم أركز في دراستي وأركز على اللي قدامي.”
وسرعان ما دخل في النوم، وهو يحاول يترك كل الأفكار اللي كانت تضغط عليه، لكنه في نفس الوقت كان يعرف إن كل شيء راح يتغير بشكل أو بآخر.
استفاق فجأة في منتصف الليل، وكان قلبه ينبض بسرعة، وجسمه مبلل بالعرق. كانت غرفة الظلام حوله ثقيلة وصامتة، إلا من صوت تنفسه الذي كان يملأ الأجواء. نظر حوله، ويديه المرتجفتين تكادان تلمسان الأغطية التي كانت تشدّها على جسده.
حاول أن يعود للنوم، لكنه شعر بشيء غريب. كان الكابوس الذي رآه لا يزال عالقًا في ذهنه. في الحلم، كان في نفس المكان اللي كان فيه قبل موته. كان الشجار بين زملائه يزداد عنفًا، وكان هو في وسطه يحاول الهروب، لكنه شعر بشيء غريب يطارده. وكلما حاول أن يهرب، كان الشخص الذي يطارده يقترب منه أكثر وأكثر.
في لحظة، شعر بشيء يطعن قلبه. وكان الألم شديدًا، ثم تلاشى في لحظة، ورآى نفسه يسقط أرضًا، بينما كان الجميع يواصلون الشجار وكأنهم لا يرونه. وعندما شعر أن روحه على وشك الخروج، استفاق فجأة من النوم.
“يا الله…” همس لنفسه وهو يحاول استيعاب ما مرّ به في الحلم.
جلس على طرف السرير، وضغط يديه على رأسه. كان يشعر بشيء غريب في قلبه، كأن الكابوس كان تحذيرًا. لكن لماذا؟ هل كان حقًا مجرد حلم؟ أم كان تنبيهًا لما سيحدث في المستقبل؟
نهض ببطء، وفتح نافذة الغرفة. الهواء البارد دفعه إلى أن يأخذ نفسًا عميقًا. “لازم أكون حذر، لازم أغير كل شيء… ما أقدر أخلي نفسي أتكرر في نفس السيناريو.”
لكن في أعماقه، كان يعلم أن كل شيء كان يعتمد على قراراته في الأيام القادمة. هل سيقدر على تغيير مصيره؟ وهل الكابوس كان مجرد حلم عابر أم إنذار لما سيحدث؟ لا أحد يعلم.
ظل واقفًا عند النافذة لعدة دقائق، يحاول تهدئة نفسه. ثم قرر العودة إلى السرير، لكن هذه المرة كان قلبه أكثر يقظة، وعقله مليء بالأسئلة والشكوك.
“بكرة يوم جديد، ولازم أكون مستعد لكل شيء.”
ثم أغلق عينيه مرة أخرى، لكن النوم كان بعيدًا عنه.
في اليوم التالي، استفاق باكرًا على صوت المنبه الذي كان يرن بصوت مزعج. حاول تأجيل الاستيقاظ لدقائق أخرى، لكن صورة الكابوس الذي رآه في الليل عادت لتطفو في ذهنه، فأجبر نفسه على النهوض.
في المطبخ، كانت أمه تحضّر الفطور كالمعتاد. لم يكن شيء في البيت مختلفًا عن أي يوم آخر، لكن قلبه كان مضطربًا بشكل غريب. شعر وكأن كل شيء حوله يخبئ شيئًا ما، شيء غير مرئي لكنه ثقيل في الجو.
“صباح الخير، يابا!” قال وهو يجلس على الطاولة.
أجابته أمه بابتسامة عريضة، كما هو حالها دائمًا: “صباح النور يا حبيبي، جهزت لك فطورك، لازم تبدأ يومك بنشاط.”
أخذ قضمة من الخبز، لكنه لم يكن يستطيع التركيز. عقله ما زال مشغولًا بتلك الرؤية المظلمة التي تجثم على صدره. وداخل نفسه، كان يشعر بشيء غير مريح، كأن شيء كبير سيحدث، ويدرك أنه يجب عليه أن يكون مستعدًا لهذه اللحظة.
“أمك راح تروح السوق بعدين، إذا تبغى تروح معايا؟” قالت أمه بينما كانت تجهز له كوب الحليب.
“لا، إن شاء الله، عندي دوام اليوم.” رد بسرعة، ثم أضاف: “لكن إذا تحتاجين مساعدة، أنا موجود.”
فاجأته نفسه بهذه الكلمات، كانت دائمًا تهتم به أكثر من نفسها، وكان في ذهنه أنه يجب عليه أن يكون حريصًا على أن يفعل ما بوسعه هذه المرة ليكون أفضل. ربما كانت هذه فرصته لتغيير كل شيء.
بعد أن انتهى من فطوره، ارتدى ملابسه بسرعة، لكنه شعر ببطء شديد وكأن الوقت يمر ببطء أكبر من المعتاد. أخذ حقيبته وخرج من المنزل.
في الطريق إلى المدرسة، كانت المدينة تبدو كما هي، نفس الأزقة والشوارع القديمة، نفس المحلات التي كانت مليئة بالحياة. لم يكن هناك أي شيء يبدو مختلفًا. لكن في قلبه، كان يعلم أن هذا اليوم قد يحمل له شيئًا مختلفًا تمامًا.
دخل المدرسة، وهو يحاول أن يترك خلفه أفكار الكابوس. لكن بمجرد أن عبر بوابة المدرسة، شعر بشيء غريب، وكأن كل شيء من حوله يراقبه. وكأن ثقل الماضي يلاحقه في كل خطوة يخطوها.
بينما كان هو مستمر في السير نحو فصله، فَجأة، شعر بشيء ثقيل يهوي عليه من الخلف. قبل أن يتمكن من تفاديه، سقط على ظهره بقوة على الأرض، وألمه يزداد من الصدمة. رفع رأسه بسرعة، ليجد صديقه كلوفر وهو يضحك بشكل هستيري، جالس فوقه كأنه فاز بمباراة مصارعة.
“كلوفر!” صرخ وهو يحاول دفعه عن ظهره، لكن كلوفر كان يقاوم بابتسامة عريضة على وجهه. “وش فيك؟! وش سويت؟!”
“كنت أظن أنك كُنت بتطيح، يا بطل! كُنت مراقبك من بعيد عشان أوقعك!” قال كلوفر ضاحكًا، وكأنها مزحة تافهة.
“يالله، أنت ما تستحي! طايحني على الأرض كأنك قاعد تلعب مع عيال الحارة!” رد عليه وهو يحاول أن يقف ويشد قميصه.
“ما عندي أي مشكلة أكون معك في التمرين، كلوفر! لكن خلني أوقف أول!” قال بلهجة جادة، لكن دون أن ينسى السخرية التي كانت واضحة في صوته.
“هاها، والله أبدًا ما كنت قاصدك، بس كنت أشوفك مشغول، قلت خلني أختبر قوة تحملك!” قال كلوفر وهو يضحك، ويقف عن ظهره.
حاول أن يتماسك وهو يتنهد، ووقف أخيرًا. “والله إذا كنت بتستمر بهالحركات، خليني أجيب لك عصا أحسن لك!” قالها وهو يغمز له.
“يا شيخ، لا تكبرها! بس جيت أضحك معك! ترى الدنيا ما تسوى الحزن، لازم تضحك! عادي إذا ما كنت حاسس بالراحة شوي!” قال كلوفر وهو يشير إلى نفسه.
بينما كانا يمشيان معًا نحو الفصل، كان يتمنى لو أن كل شيء في الحياة بسيط مثل هذا الموقف. هذه اللحظات الصغيرة، التي تبدو غير مهمة للآخرين، كانت تجلب له بعض الراحة وسط الفوضى التي يعيشها.
جلس في مقعده وأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يفتح الكتاب. كانت فكرته عن اليوم أن يغمض عينيه عن كل شيء، ويغرق في صفحات الكتاب ليهرب من الفوضى التي حدثت في الأيام الأخيرة. لكن كما هو الحال دائمًا، الأمور لا تسير كما نريد.
دخل المعلم إلى الفصل، ومعه طالبة جديدة تتبع خطواته. التفت جميع الطلاب إليها وهم يتأملونها. كانت تبدو غريبة، وكأنها جديدة تمامًا، ولا تعرف أحدًا في هذا المكان.
لكن نظرته تغيرت فورًا عندما رآها. كانت هي، سيلينا، الفتاة التي قابلها في اليوم السابق في الشارع. كانت نفسها، لم تتغير، ولكن ماذا كانت تفعل هنا؟ داخل الفصل؟ وكأن كل شيء تداخل مع بعضه البعض في لحظة واحدة.
لم تتحرك سيلينا من مكانها في البداية، لكنها رأت في عينيه نظرة غريبة، ومن دون تردد، أشارت عليه مباشرة وقالت بصوت عالٍ: “خاطف!”، والدهشة واضحة على وجهها.
ما زال يحدق فيها، وعينيه تضيء بالغضب والدهشة معًا. “إيش تقولين؟” رد عليها بلهجة عصبية، محاولًا أن يسيطر على نفسه. “أنتِ، كيف تجرأتِ على قول كذا قدامي؟”
المعلم نظر إليهم باستغراب، ثم سألهم بحذر: “هل تعرفون بعضكم؟”
ردوا معًا في نفس اللحظة: “لا.” كانت الإجابة أسرع من البرق، كأنها اتفاق بينهما على ألا يعترفا بأي شيء.
لكن المعلم لم يقتنع بسهولة. كان ينظر إليهم وكأنهما يخفيان شيئًا. “طيب، إذا كنتم ما تعرفون بعض، لازم ترتاحون من اللي بينكم، وتبدأون دراستكم مع بعض. اتفقوا على هذا.” قال وهو يبتسم، متجاهلًا التوتر الذي كان في الجو.
أخذ كل واحد منهم مكانه، وكل واحد في قلبه أفكار مختلفة. بالنسبة له، كانت هذه بداية يوم آخر. لكن بالنسبة لسيلينا، كانت هذه بداية جديدة لها.
Comments