بعد أن انتهيت من مساعدة أمي في المطبخ وعدت إلى غرفتي، شعرت بنوع من الإرهاق، وكأن كل هذه الأحداث الغريبة تسحب طاقتي شيئًا فشيئًا. لكن بينما كنت أفتح باب غرفتي، سمعت صوتًا مألوفًا جعلني أتجمد في مكاني.
“هييي! ما هذا الوجه الجاد؟ هل تحولتَ فجأة إلى عجوز؟”
نظرت إلى الداخل، وإذا بصديقي كلوفر يجلس على سريري، وهو يمضغ بسكويتة بشكل طفولي، وابتسامته العريضة تكاد تضيء الغرفة. كلوفر؟ لكن… كيف؟ لم أره بهذه الهيئة منذ سنوات. كان أصغر سنًا، وبدا مختلفًا تمامًا عن الشخص الذي عرفته في سنواتي الأخيرة.
بصوته المرح الذي يحمل طابع السخرية المعتاد، قال: “كنت أفكر أنك ستعود بسرعة، لكن يبدو أن الطبخ مع والدتك أخذ منك عمرك كله! هل تحتاج دورة تدريبية لتعلم كيف تقطع الخضار؟”
وقفت هناك أنظر إليه، شعور غريب يغمرني. هذا هو كلوفر، صديقي المقرب الذي كان دائمًا يشتهر بحماقته ومرحه. لكن في المستقبل، لم يكن كذلك. كان كلوفر الذي عرفته قبل موتي أكثر هدوءًا، متحفظًا، وكأنه يحمل هم العالم فوق كتفيه. هذا التناقض الحاد بين شخصيته الآن وما أصبح عليه لاحقًا أربكني.
“ماذا هناك؟ لماذا تنظر إليَّ هكذا؟ هل نسيت شكلي الوسيم فجأة؟” قال كلوفر وهو يضحك بصوت عالٍ.
حاولت أن أبتسم لأخفي دهشتي، وقلت: “لا، لا شيء. فقط… لم أتوقع أن أراك هنا بهذه السرعة.”
نهض من السرير واقترب مني، ثم وضع يده على كتفي وقال بابتسامة ساخرة: “أوه، لا تكن جادًا هكذا! نحن في آخر سنة، وهذا يعني أنها سنة المرح والتهور! صحيح أنني أعتمد عليك لإنقاذي من الدراسة، لكنك أيضًا تحتاجني لأذكّرك بكيفية الاستمتاع بالحياة.”
ضحكت بخفة، رغم أن عقلي كان منشغلًا بما سيحدث له في المستقبل. شعرت برغبة قوية في حمايته من التغيرات التي أعرف أنها قادمة. لكن كيف يمكنني فعل ذلك دون أن أكشف له أي شيء؟
“حسنًا، كلوفر، لماذا لا نبدأ من الآن؟ لنرى إن كنت حقًا قادرًا على إعادتي إلى الاستمتاع بالحياة.”
ابتسم كلوفر بغرور وضرب صدره بيده قائلاً: “اترك الأمر لي، أنا أفضل خبير في هذا المجال! ولكن أولاً، أحضر لي شيئًا من المطبخ. لماذا يبدو أنك فقط من حصل على المكافآت اليوم؟”
ضحكت وأنا أهز رأسي، ثم توجهت نحو الباب، أفكر في هذه الفرصة الغريبة لأعيش مع كلوفر مجددًا، وأحاول أن أصنع ذكريات أفضل.
بعدما ذهبت إلى المطبخ وأحضرت له بعض العصير والبسكويت، عدت إلى الغرفة لأجده مستلقيًا على السرير وكأنه ملك يجلس على عرشه. “أخيرًا! لقد تأخرت! ماذا كنت تفعل، تصنع هذا العصير بنفسك؟” قال كلوفر وهو يتناول الكوب مني بابتسامة واسعة.
جلست على الكرسي المقابل له، أراقبه بصمت للحظات. كان يلتهم البسكويت بطريقة عشوائية، يترك الفتات على السرير بلا مبالاة، تمامًا كما كان يفعل دائمًا. لم أستطع منع نفسي من الابتسام، لكن في داخلي كان هناك شعور مختلط. هذا الشخص الذي أمامي هو كلوفر القديم، الصديق الذي كان ينشر الفرح أينما ذهب، قبل أن تغيره الحياة.
“ماذا؟ لماذا تنظر إلي وكأنني أرتكب جريمة؟” قال وهو يرفع حاجبه بفضول.
ابتسمت وقلت: “لا شيء، فقط… كنت أفكر كيف يمكن أن تكون أحمق إلى هذه الدرجة.”
“هاه؟ هذا لأنك لا تملك حس الفكاهة الذي أملكه. الحياة تحتاج لروح خفيفة، وليس لوجه عبوس مثلك!” قال وهو يرمي وسادة نحوي.
أمسكت بالوسادة قبل أن تضربني وقلت بجدية أكثر: “كلوفر… ما خططك لهذه السنة؟ أعني… هل فكرت يومًا فيما تريد فعله بالمستقبل؟”
تغيرت تعابير وجهه للحظة، ثم عاد ليضحك بخفة وقال: “المستقبل؟ هذا كثير علي الآن. بالكاد أستطيع التركيز على الاختبارات القادمة! لماذا تسأل بهذه الجدية؟ هل تخطط أن تصبح فيلسوفًا أو شيء من هذا القبيل؟”
لم أستطع إخباره أنني أعرف كيف ستسير حياته، وكيف سيبتعد عن شخصيته هذه بسبب الأحداث الصعبة التي ستواجهه. كنت أعرف أن هناك لحظات حاسمة ستؤثر عليه، لكن ربما، فقط ربما، أستطيع أن أغير مصيره.
قلت له بابتسامة خفيفة: “لا، فقط تساءلت. لكن أظن أنني سأكون هنا دائمًا لأذكّرك أنك تحتاج لخطط، حتى لو كنت أحمق.”
ضحك وقال: “وأنا سأكون هنا دائمًا لأذكّرك أن تخفف من جديتك المبالغ فيها. الصفقة عادلة، أليس كذلك؟”
ابتسمت وأنا أشعر بالراحة لوجوده مجددًا في حياتي بهذه الطريقة. ربما هذه المرة أستطيع أن أصنع ذكريات جديدة، وأمنحه فرصة ليبقى كلوفر الذي عرفته دائمًا، الشخص الذي لا يخشى الضحك، ولا يخشى الحياة.
لكن في داخلي، كنت أعلم أن هذا لن يكون سهلاً.
بعد كتابة ملاحظاتي، وبينما كنت أحاول أن أبدو كشخص جاد ومركز على “تغيير المصير”، قفز كلوفر مجددًا إلى غرفتي دون أي إنذار.
“آها!” صرخ بصوت عالٍ وهو يرفع وسادة من على سريري ويرميها في وجهي. “ما هذا؟ هل بدأت فعلاً بوضع خطط لتدمير العالم؟ أم أنك تكتب رواية مملة أخرى عن حياتك؟”
ابتسمت وأنا أمسك الوسادة وأرميها عليه بقوة: “كلوفر، لو أنني أكتب عن حياتك، فستكون أكثر رواية مضحكة في التاريخ. عنوانها سيكون: الأحمق الذي لم يتوقف عن الأكل والثرثرة!”
ضحك بصوت عالٍ وبدأ يتفحص دفاتري كعادته الفضولية. “حماية كلوفر من الانكسار؟ ما هذا؟ هل أنا كوب شاي قابل للكسر؟”
حاولت أن أنتزع الدفتر منه، لكنه كان يقفز حولي مثل طفل صغير. “أنت أكثر شخص أعرفه معرض للكارثة بمجرد أن يفتح فمه!” قلت وأنا أحاول الإمساك به.
“آه، إذاً تعتقد أنك بطل خارق الآن؟ رائع! إذًا، ماذا عن علاقتك مع الفتيات؟ هل ستكتب خطة لتجنب الفشل أيضًا؟” قال ذلك وهو يغمز بغرور مزيف.
رفعت حاجبي وقلت ببرود: “علاقاتي؟ ربما يجب أن أبدأ بخطتك أنت لتجنب إحراج نفسك أمام الفتيات كل مرة تقول: مرحبًا، هل تحبين البطيخ؟”
ضحك كلوفر حتى انحنى ظهره. “يا رجل، البطيخ كان استراتيجية عبقرية. من يعرف؟ ربما فتاة أحلامي كانت تحب الفاكهة!”
“حسنًا، استمر في محاولاتك العبقرية. ربما تصل في النهاية إلى فتاة تحب الأحمق الذي لا يتوقف عن الضحك.”
جلسنا بعدها على الأرض، وبين الضحك والثرثرة، شعرت بشيء مختلف. كلوفر كان صديقًا مميزًا، غريبًا لكنه مخلص جدًا. كنت أعرف أنه سيقف بجانبي مهما حدث، حتى لو لم يفهم ما يجري بداخلي.
وفي اللحظة التي بدأ فيها كلوفر التحدث عن خططه “العبقرية” لتجنب الرسوب في الامتحانات (والتي تضمنت على ما يبدو النوم فوق الكتب بدلاً من قراءتها)، أدركت أن هذه اللحظات البسيطة، الضحك والجنون مع كلوفر، كانت واحدة من الأشياء التي سأفعل أي شيء للحفاظ عليها.
“إذن؟” سأل وهو يأخذ لقمة كبيرة من شطيرة أحضرها من المطبخ دون إذن. “ما أول شيء ستفعله في خطتك العظيمة؟”
ابتسمت وقلت: “أول شيء؟ سأقنعك أن تأكل أقل.”
“مستحيل!” قال وهو يرفع الشطيرة في الهواء، كأنه يحميها من هجوم وشيك. “لكنني سأدعمك رغم هذا الجنون!”
ضحكت وأنا أراقبه. هذه الرحلة ستكون طويلة… ولكنها ستكون ممتعة، بفضل هذا الأحمق المرح.
بينما كلوفر جالس على الأرض يلتهم شطيرته بنهم، خطرت لي فكرة غريبة: “كلوفر، بما أنك عبقري زمانك، كيف كنت تفكر في إنقاذ مستقبلك؟”
نظر لي بجدية مصطنعة، مسح فمه بكمه (رغم وجود منديل بجانبه)، وقال: “الخطة بسيطة جدًا. أولًا، سأكسب قلب معلمة الرياضيات.”
كتمت ضحكتي بصعوبة: “آه، معلمة الرياضيات؟ وهل أنت متأكد أنها تملك قلبًا في الأصل؟”
هز رأسه بثقة: “طبعًا! كل ما عليّ هو أن أبتسم في وجهها وأقول: الأستاذة، الرياضيات صعبة جدًا بدون توجيهاتك العبقرية. بعدها، أنا متأكد أنها ستعطيني 100 درجة من الشفقة!”
انفجرت ضاحكًا: “بالطبع ستعطيك 100 درجة… في مدى سذاجتك!”
“لا تسخر مني، يا عبقري المستقبل. على الأقل لدي خطة!” قال وهو يضع يديه على صدره بفخر.
“خطتك تحتاج خطة لإنقاذها!” قلت وأنا أمسك دفتر ملاحظاتي وأكتب: مهمة إضافية: التأكد أن كلوفر لا يدمر مستقبله بنفسه.
قاطعتني رنّة هاتف كلوفر. نظر إلى الشاشة واتسعت عيناه بدهشة. “يا إلهي! إنها ميمي!”
رفعت حاجبي: “ميمي؟ من ميمي؟”
“ميمي، أذكى فتاة في صفنا! أخيرًا، لقد استجابت لرسالتي!” قال وهو يقفز بحماس.
“وأي رسالة أرسلت لها؟”
ابتسم بغرور وأجاب: “كتبت لها: هل تؤمنين بالحب من النظرة الأولى؟ أم يجب أن أمر أمامك مرة أخرى؟”
انفجرت ضاحكًا لدرجة أنني سقطت من على الكرسي: “أوه، رائع يا كلوفر، أنت حقًا شاعر! لماذا لم تطلب أن تُدرَّس أشعارك في المناهج الدراسية؟”
كلوفر، وكأنه لم يسمع سخريتي، كان مشغولًا بإصلاح تسريحة شعره في مرآتي. “إنها مسألة وقت قبل أن تقع في حبي. فقط شاهد.”
بينما كنت أراقب هذا الكوميديا الحية، لم أستطع منع نفسي من التفكير: ربما هذه هي الطريقة التي سأتعامل بها مع هذه الحياة الثانية. الضحك، المرح، وقليل من الجدية في الأوقات المناسبة. ومع كلوفر، يبدو أن الضحك سيبقى جزءًا كبيرًا من هذه الرحلة.
ثم، فجأة، سمعت صوتًا يأتي من المطبخ. أمي صرخت: “من أخذ قطعة الكعكة التي كنت أخبئها؟!”
نظرت إلى كلوفر الذي توقف عن التفاخر وهرب نحو النافذة مثل لص مبتدئ. صرخت خلفه: “كلوفر! حتى الكعكة؟!”
رد من النافذة بابتسامة: “الطريق إلى قلب ميمي يحتاج وقودًا!”
أمسكت الوسادة ورميتها نحوه، لكنه كان قد قفز واختفى. هذا اليوم كان مجرد بداية لحياة مليئة بالجنون، بفضل صديقي المرح، كلوفر.
وقفت في منتصف الغرفة وأنا أضحك بشكل لا إرادي. “كلوفر، كلوفر… أنت فعلاً مشروع كارثة متنقلة!” قلت لنفسي وأنا أنظر إلى النافذة التي قفز منها.
قررت أن أترك أمر الكعكة لأمي، على أمل أن كلوفر ينجو بنفسه من غضبها. لكن قبل أن أتمكن من التفكير أكثر، عاد كلوفر فجأة وهو يتنفس بصعوبة. “رجعت! نسيت حقيبتي!”
نظرت إليه بدهشة: “جدياً؟ هربت مثل لص محترف ثم رجعت لأنك نسيت حقيبتك؟”
“ماذا أفعل؟! الحقيبة فيها خططي العبقرية لمستقبلي… وأيضاً بعض الشطائر الإضافية.” قال وهو يبحث حوله بجنون.
أمسكت حقيبته ورميتها له: “خذ حقيبتك واهرب قبل أن تأتي أمي وتحوّلك إلى فطيرة جديدة!”
لكنه وقف مكانه وقال فجأة: “انتظر! ماذا لو اكتشفت أني أخذت الكعكة؟ ستعرف أني كنت هنا! علينا أن نخترع قصة تغطي علينا!”
“علينا؟” قلت وأنا أرفع حاجبي. “أنت من أخذ الكعكة، وأنا بريء!”
“لكننا فريق! إذا سقطت، تسقط معي!” قال وهو يضع يده على كتفي بجدية درامية.
“لا، كلوفر. إذا سقطت، سأكون من يدفعك للأسفل!” قلت وأنا أضحك.
لكنه تجاهلني تماماً وبدأ يمشي ذهاباً وإياباً في الغرفة: “حسنًا، خطة الطوارئ: سنقول إن هناك شبح الكعك في المنزل. أمي ستصدق، أليس كذلك؟”
وضعت يدي على وجهي وأنا أحاول كتم ضحكتي: “شبح الكعك؟ حقاً؟ كلوفر، أنت عبقري في نوع جديد من الغباء.”
لكنه أصر على فكرته: “هذا أفضل من أن أواجه غضب أمك! دعنا نبدأ بصنع قصة مقنعة. الشبح يظهر فقط ليلاً، يسرق الكعك، ويترك رسالة غامضة!”
قبل أن أرد عليه، دخلت أمي فجأة إلى الغرفة ووقفت عند الباب تنظر إلينا بحدة. “حسناً، من منكما أخذ الكعكة؟”
كلوفر تجمد مكانه، ثم قال بابتسامة بريئة: “تتحدثين عن كعكة؟ لم أسمع عن كعكة قط! ربما… ربما الشبح أخذها!”
“شبح؟” قالت أمي وهي تضع يديها على خصرها وتنظر إليه نظرة لا تبشر بالخير. “أي شبح هذا؟”
“شبح الكعك!” قال كلوفر بثقة وكأنه يقدم محاضرة علمية. “أوه، إنه مشهور بسرقة الحلويات. شوهد آخر مرة في هذا الحي قبل يومين!”
أمي نظرت إليه طويلاً، ثم إليّ، ثم قالت: “إذاً الشبح يأخذ الكعك؟ حسنًا، سأبحث عن هذا الشبح… وأعلّمكم دروسًا في الخيال!”
“أعتقد أنني سأذهب الآن!” قال كلوفر وهو يلتقط حقيبته ويهرب نحو الباب بأقصى سرعة.
أما أنا، فقد بقيت في مكاني أضحك، محاولاً تفسير كيف سأعيش هذه الحياة الثانية مع شخص ككلوفر في حياتي. شيء واحد كان مؤكدًا: الملل لن يكون جزءاً منها!
Comments