٢

بينما كنت أستعد لبدء حياتي المهنية في مجال التحقيقات، لم يكن لديّ أدنى فكرة عن المفاجأة المأساوية التي كانت في انتظاري. تخرجت من الجامعة بحلم كبير في قلبي، وعزيمة أقوى من أي وقت مضى. عائلتي كانت فخورة بي، وأنا كنت على يقين أنني سأكون قادرة على المضي قدمًا في هذا المجال الذي طالما أحببته.

كنت قد بدأت في إجراء تدريبات عملية مع الشرطة، وأمضيت أيامًا طويلة في متابعة القضايا والتحقيقات. كانت الحياة تسير على ما يرام، حتى جاء ذلك اليوم الذي قلب حياتي رأسًا على عقب.

كنت عائدًا من العمل في إحدى الليالي المتأخرة. الشوارع كانت هادئة، والضباب يلف المدينة، كما لو كانت الأرض تسرح في عالم آخر. كنت أستقل سيارتي وأفكر في القضايا التي أعمل عليها، أفكر في المستقبل، وفي كيف سأواجه تحديات أكبر قريبًا. بينما كنت أقترب من أحد الأحياء الهادئة، لفت انتباهي ضجيج غير عادي.

نزلت من سيارتي بحذر، متوجهًا نحو مصدر الصوت. كان هناك مجموعة من الأشخاص يتشاجرون في الزاوية، يتراشقون بالكلمات والأيدي. كنت أسمع أصوات صراخ وشتائم، ولاحظت أن الموقف كان يزداد عنفًا. حاولت أن أهدئ الوضع، فاقتربت منهم بهدوء، محاولًا استيعاب ما يحدث.

وقفت على مسافة قصيرة منهم، وأطلقت صوتًا هادئًا، محاولًا تهدئة الأجواء: “توقفوا! ما الذي يحدث هنا؟”

لكن، كما لو أن اللحظة قد تجمدت في الزمن، لقيت نفسي عينيّ تلتقطان تفاصيل دقيقة لم أكن أتوقع أن ألاحظها. كانت حركة أحدهم، الذي كان يبدو أنه يحاول الابتعاد عن الشجار، غريبة. لم يكن ينظر إليّ، ولكن عيونه كانت متوترة، تتفحص كل شيء حوله. ومع ذلك، كانت يده مشدودة نحو جيب معطفه.

في لحظة خاطفة، أدركت ما كان يحدث. لم يكن الشجار مجرد مشادة كلامية، بل كان مخططًا للجريمة. وعندما حاولت التقدم للاقتراب منهم، شعرت بشيء ثقيل في الجو، وكأن كل شيء يتغير في لمح البصر.

قبل أن أتمكن من التحرك، شعرت بشيء حاد يخترق جسدي. كان الألم عنيفًا. نظرت إلى الأسفل فوجدت أنني قد تعرضت للطعن في خاصرتي. كان الدم ينزف بسرعة، والألم يكاد يعطل تفكيري. نظرت إلى الرجل الذي كان يقف أمامي، وقد أدركت فجأة أنه هو من طعنني. كانت عيناه باردة، خالية من أي ندم أو شعور بالذنب.

في تلك اللحظة، حاولت التنفس بعمق، لكن جسدي كان يخونني. سقطت على الأرض، والنظر إلى السماء لم يعد يبدو كما كان. كانت الأصوات من حولي تتلاشى تدريجيًا، كل شيء أصبح بعيدًا، كما لو أنني كنت على حافة الهاوية. لكن في تلك اللحظات الأخيرة، لم يكن لدي سوى فكرة واحدة تطاردني: كيف انتهى بي المطاف هنا؟

لم يكن أمامي وقت كثير. في آخر لحظة، تذكرت كلمات أمي التي كانت دائمًا تقول لي: “كوني قوية، لا تتركي أحدًا يوقفك عن تحقيق هدفك.” حاولت أن أستجمع قوتي لأستنشق المزيد من الهواء، لكنني كنت أعلم في أعماقي أن الطريق قد انتهى.

بينما كنت أغلق عيني، شعرت بشيء غريب، كأنني أسمع أصواتًا من الماضي. صوت أمي، صوت والدي، وحتى تلك اللحظات التي كنت فيها أبحث عن الحقيقة. كان كل شيء يعود إليّ، وكأنني كنت أعيش حياتي مرة أخرى، وأتساءل إذا كنت قد اكتشفت بالفعل ما كنت أبحث عنه.

ثم، كما لو أن الزمن توقف، شعرت بجسدي يفقد قوته شيئًا فشيئًا. كانت النهاية قد جاءت، ولكن كانت هناك لحظة من السلام التام، كأنني ارتحت أخيرًا من كل الأسئلة التي طالما حملتها في داخلي.

وهكذا، رحلت عن هذا العالم، تاركة خلفي أحلامًا لم تكتمل، وقصة لم تُروَ بعد

بينما كنت أفقد وعيي في تلك اللحظات، كانت الحياة تلتف حولي بسرعة شديدة، وكأنها تبتعد عني شيئًا فشيئًا. صوت الشجار الذي كان يملأ المكان، والعنف الذي أوقعني في فخ الموت، بدأت تلك الأصوات تتلاشى في ذهني. ومعها، بدأ الظلام يحيط بي تمامًا. لكن شيئًا غريبًا حدث؛ فجأة، شعرت بشيء يشدني، وكأنني كنت أُسحب إلى مكان آخر.

استفاقت عيناي ببطء، وكان أول شيء شعرت به هو الصمت. كان صمتًا غريبًا، غير طبيعي، وكأن العالم بأسره قد تجمد لحظة واحدة. حاولت تحريك جسدي، فشعرت بألم خفيف، لكنه لم يكن مثلما توقعت. لم أكن في المكان الذي كنت فيه قبل لحظات. كانت غرفتي… ولكنها لم تكن كما كانت. كان كل شيء مختلفًا، كأنني عدت إلى الوراء.

نظرت حولي، وكان هناك شيء غير عادي في المكان. كانت الجدران نفسها، السقف نفسه، لكن كل شيء بدا أصغر. والأثاث، الذي كان يبدو عاديًا في السنوات الماضية، كان الآن يبدو وكأنه جزء من ذكريات بعيدة. وبدأت تتسلل إلى عقلي فكرة غريبة. هل يمكن أنني في الماضي؟ هل عدت إلى الوراء؟ نظرت إلى تقويم الحائط… ثم شعرت بصدمة. كان مكتوبًا عليه: “السنة الدراسية 2017”.

تمكنت من التنفس بصعوبة، وأنا أحاول استيعاب ما يحدث. كيف لي أن أعود سبع سنوات إلى الوراء؟ كيف يكون من الممكن أن أعيش مجددًا في السنة الأخيرة من الثانوية، قبل أن تموت كل تلك اللحظات المظلمة؟ لكن السؤال الأكثر إلحاحًا كان: ماذا يجب عليّ أن أفعل الآن؟

نظرت إلى نفسي في المرآة. كنت لا أزال في جسدي القديم، الذي كنت فيه في تلك الفترة. لكن عقلي… عقلي كان الآن ممتلئًا بكل تلك السنوات من الخبرات والمعرفة التي عشتها. كنت أعرف ما سيحدث في الأيام المقبلة، كيف ستسير الأحداث، وكيف أنني كنت على حافة الموت بسبب تلك اللحظة المأساوية. لكن السؤال الكبير الآن كان: هل كان لديَّ فرصة لتغيير مصيري؟

رحت أتأمل في تلك اللحظة بعمق، وكأنني أخوض صراعًا داخليًا مع نفسي. ماذا لو كان لديَّ فرصة لإصلاح كل شيء؟ ماذا لو استطعت أن أتجنب ذلك الشجار؟ ماذا لو كنت قادرًا على النجاة وتغيير كل شيء، بما في ذلك حياتي؟ كان شعورًا غريبًا للغاية، ولكنني شعرت بشيء ما في أعماقي يقول لي: “لن تترك هذه الفرصة تضيع منك”.

ثم تذكرت آخر لحظة قبل أن أغشي عليّ. كنت في الحفل المدرسي، حيث كان ذلك الشجار يتصاعد بين زملائي. في تلك اللحظة، كان من المفترض أن أتدخل وأحاول تهدئة الوضع. ولكنني لم أفعل، وبسبب تلك اللحظة القصيرة من التردد، انتهت حياتي. الآن، لديَّ فرصة ثانية. لكن هل سأتمكن من اتخاذ القرار الصحيح هذه المرة؟

فجأة، دخلت أمي إلى الغرفة، تنظر إليّ بقلق. كانت عيونها مليئة بالحيرة، وكأنها تشعر أن شيئًا ما قد تغير فيني. “هل أنت بخير؟” سألت بصوت متردد، بينما كانت تقترب مني، وتراقبني بتركيز، كأنها تبحث عن شيء غير عادي في وجهي.

لم أتمكن من الرد مباشرة. شعرت بشيء ثقيل في صدري، وكأنني على وشك الانفجار. كل شيء كان غريبًا، كل شيء كان مختلفًا. دون تفكير، انحنيت إلى الأمام، واحتضنتها بقوة. كانت يدي ترتجف وأنا أضمها إليّ، كأنني أخشى أن أفقدها مجددًا.

أمي تجمدت للحظة، ولم تتوقع هذا التصرف مني. كانت عيونها مليئة بالدهشة، ثم حاولت دفعني برفق بعيدًا، بينما كانت تقول: “عزيزي، ما بك؟ ماذا يحدث؟”

لكنني لم أتمكن من الابتعاد، كنت بحاجة لهذا الحضن، لهذا الشعور بالأمان، وهذا الشعور الذي كنت أفتقده بشدة. همست في أذنها بصوت خافت، “أحبك.”

أمي كانت في حالة من الصدمة. لم تفهم ما يحدث. كانت تنظر إليّ بعينين واسعتيْن، وكأنها تحاول استيعاب الوضع. “ماذا؟ ماذا تعني؟” قالت، بينما كانت تسحبني بعيدًا قليلاً، تحاول فهم السبب وراء هذا التصرف الغريب.

“سبب تافه… فقط لأنني حلمت حلمًا مرعبًا.” قلت بصوت مختنق، محاولة إخفاء التوتر الذي شعرت به. لم أكن أستطيع أن أخبرها بالحقيقة، بما في ذلك ما مررت به. “كان مجرد حلم، أمي، مجرد حلم.”

لكن أمي كانت تشعر أن هناك شيئًا عميقًا في كلماتى، وأن ما يحدث ليس مجرد حلم عادي. كانت تراقبني بصمت، وعينيها مليئة بالأسئلة التي لم أتمكن من الإجابة عليها. “هل أنت متأكد أنك بخير؟ أنت لست على طبيعتك.”

“نعم، أنا بخير. فقط… كنت بحاجة إليك.” همست، بينما كنت أعتصر حضنها أكثر.

بعد أن انفصلنا عن العناق، شعرت بنوع من الهدوء. رغم أنني كنت أعلم أنني لم أستطع إخبار أمي بكل شيء، إلا أن وجودها بجانبي كان كافيًا ليشعرني بالأمان. قررت أن أستغل هذه الفرصة لأكون أكثر قربًا منها.

فيما كنت أرتب الأفكار في رأسي، نظرت إليها وهي تقوم بتحضير الطعام في المطبخ. قررت أن أذهب وأساعدها، كأنني أبحث عن شيء يشغلني عن الأسئلة التي كانت تتراكم في داخلي. توجهت نحو المطبخ، وقلت وأنا أقترب منها: “أريد مساعدتك في المطبخ.”

أمي نظرت إليَّ بعيون مستغربة، ثم ابتسمت بخفة وقالت: “أنت؟ تساعدني في المطبخ؟ ماذا حدث لك؟”

“أريد أن أساعد، أمي. فقط دعيني أساعدك.” قلت وأنا أبدأ في ترتيب بعض الأطباق على الطاولة. كانت يدي ترتجف قليلاً، لكنني حاولت أن أبدو طبيعيًا.

أمي استدارت نحوي بحذر، ووضعت يديها على خصريها وقالت، “حسنًا، ولكن لا تنسى أنك في السنة الأخيرة من الثانوية. دراستك أهم من أي شيء آخر في هذه الفترة.”

“أعلم، أمي، لا تقلقي. سأتأكد من أنني سأركز في دراستي، لكنني أيضًا أحتاج أن أكون معك الآن.” قلت وأضفت مبتسمًا: “أنتِ تعرفين أنني لا أستطيع أن أرفض مساعدتك.”

أمي أوقفت العمل لثانية، ثم نظرت إليَّ بتمعن. كانت تشعر أن شيئًا ما قد تغير في تصرفاتي، لكنها لم تستطع تحديد ما هو. “أنا فقط أخاف عليك. الدراسة صعبة في هذا الوقت، خصوصًا مع الضغوط التي ترافقها.”

“لا تقلقي، سأتعامل معها. فقط أحتاج لبعض الراحة.” قلت وأنا أساعدها في تقطيع الخضار، على الرغم من أن عقلي كان لا يزال يدور في دوامة من الأفكار.

ثم تابعت أمي حديثها وهي تراقبني: “يجب أن تركز أكثر، لا تشتت نفسك، يا بني. المستقبل يحتاج منك كل جهدك.”

“أعدك، سأركز.” قلت وأنا أبتسم لها، محاولًا أن أطمئنها.

كنت أعرف أن الدراسة كانت الأهم في هذه الفترة، لكنني أيضًا كنت أعلم أن هذه الفرصة التي أُعطيت لي، بأن أعود إلى الماضي، لا يمكنني أن أضيعها.

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon