...جلس أمنثيس على طرف السرير، مُلتفتًا إليّ بنظرة ملؤها الغرابة والغموض، وفي صوته امتزجت النبرة الساخرة بنبرة عجيبة غريبة: “ألم تسمعني، أم أنك تعجز عن فهم حديثي؟ لقد قلت للتو بإمكانك أن تتمنى ثلاث أمنيات، وسأحققها لك، مهما كانت!”...
...كنت شارد الذهن، بارد الأعصاب، وبدلًا من الرد عليه، توجهت إلى النافذة، فتحتها على مصراعيها وكأنني أستنشق أول أنفاس الصباح. استدرت إليه وأجبت بلهجة مطمئنة: “سأتمنى لاحقًا.” تعالت ضحكته، كانت مجنونة وكأن فيها شيئًا من السخرية القاتلة: “ألا تخاف مني، يا فتى؟”...
...أجبته ببرود كالصقيع: “لا!”...
...فجأة، اختفى أمنثيس، كأنما ذاب في الهواء مثل دخانٍ خفي، وتوارى عن الأنظار. مضت لحظات، قصيرة لكنها كأنها دهر، حتى قررت التوجه للاستحمام، غير مبالٍ بما جرى بيني وبين هذا الكائن الذي لا ينتمي لعالم البشر....
...دخلت الحمام، أغلقت الباب، وبدأت بخلع قميصي، لكن فجأة، ظهر أمنثيس جالسًا في الهواء أمامي، متربعًا كأنه في حالة تأمل. احتقنت ملامحي بالغضب حتى زفرته صرخةً مدوية: “اخرج!” وبسرعة لا تُصدق، تلاشى كأنما لم يكن شيئًا، كأن حضوره لم يكن إلا ظلاً عابرًا....
...في الصباح، فتحت عيني ببطء، أشعر بوزنٍ ثقيل على قدميّ، فرفعت جسدي لأتحقق مما هو عليه؛ فإذا بأمنثيس قد تمدد على طرف السرير، نائمًا كما ينام الأطفال في هدوء. مسحت عيني بأصابعي في محاولة للتأكد مما أراه، ولم أجد غير هذا المشهد أمامي. سحبت قدمي بهدوء، ثم دفعت جسده بعيدًا بكل ما لديّ من قوة. تكور أمنثيس في الهواء بمرونة، ثم فتح عينيه ببطء وتثاءب كأنه كان في عالمٍ آخر. قال بلهجة معاتبة: “هكذا تتعامل مع ضيفك؟”...
...استهزأت به ساخرًا: “ومنذ متى تنام الشياطين؟” فرد بابتسامة مشوبة بغرابة لا تُوصف: “لماذا السخرية؟ لكل كائن خصوصيته الخاصة.”...
...قبل أن أرد عليه، فُتح باب غرفتي، ودخلت والدتي بابتسامة صباحية، همست بلطف: “هل أصبحت بخير الآن؟” تعجبت من سؤالها، فأجبتها مطمئنًا: “نعم، أنا بخير، لا تقلقي.” تبادلنا بضع كلمات، ثم خرجت من الغرفة، تاركةً إياي غارقًا في دوامة من التساؤلات....
...نظرت إلى أمنثيس، وقلت بنبرة صارمة: “ما الذي يحدث هنا بالضبط؟”...
...تنهد بصوتٍ عميق كمن يحمل على عاتقه أسرارًا ثقيلة، ثم قال: “لقد مكثت طريح الفراش أربعة أيام، ووالدتك اعتنت بك طوال تلك الليالي، ساهرةً بجوارك.”...
...سخرت من كلماته دون أن أصدقها تمامًا، فقلت: “أنت شيطان، غبي كغيرك.”...
...ابتسم بخبث، ثم اقترب مني، ووضع إصبعه على جانب رأسي. فجأة، انفتح أمام عيني مشهدٌ كأنه سيناريو عابر للأزمان؛ رأيت والدتي جالسةً إلى جواري، تصلي لأجل شفائي، وأيامي تمر في صمتٍ ثقيل، وأنا محاطٌ بالعناية في سريري....
...حين انتهى المشهد، عادت روحي إلى جسدي، أدركت أن ما قاله أمنثيس كان حقًا، وأن شيئًا غير طبيعيٍ قد حدث في غيابي عن الوعي. تراجعت إلى زاوية الغرفة، وشيء من الرعب بدأ يتسلل إلى أعماقي، شعرت بقلبي يتباطأ من الخوف، فتجمعت الكلمات في فمي، وخرجت خافتة، مرتعشة: “من… من أنت بحق الجحيم؟”...
...نظر أمنثيس إليّ بعينين مثقلتين بالغموض، كأن كلماته كانت تخرج من أعمق نقطة في كيانه المظلم: “لن أشرح لك كل شيء الآن. ستعرف ذلك بنفسك، ولكن عليك أولًا أن تذهب إلى مكتبة جدك. هناك، كرر اسم ‘نفرامون’ ثلاث مرات.”...
...توقف لبرهة، وعيناه تقدحان ببريقٍ غريب، ثم تابع بصوتٍ ينذر بالفوضى: “لكن إياك أن تخطو تلك الخطوات دون حذر. حين تنطق اسمه، ستفقد الذاكرة للحظات، وسيعم الخراب في كل زاوية. وعليك لتحمي نفسك أن تستدعيني مع سيتاكراب. الفوضى ستسري كالنار، ولإخمادها، سيتوجب عليك تحرير أوزفيرام، فهو الوحيد القادر على حماية حياتك في وسط هذا الظلام… حينها سيبدأ…”...
...لم يكد ينهي جملته حتى قاطعه ظهورٌ مباغت، إذ شقّت الغرفة شمسٌ قاتمة، وبرز منها حتعنيس بجسده المهيب، وعيناه المليئتان بالغضب، وسرعان ما صاح بصوت كالرعد: “تبا لك، أمنثيس! أنت تحاول حياكة أفكارك في ذاكرته، وتثبيت مكانك فيها!”...
...اندلعت مشاحنة بينهما؛ كلمات متقطعة وجمل غامضة تقاذفت بينهما كالسكاكين، وأصوات أصداؤها كرياح عاصفة تجتاح روحي، حتى شعرت بأن عقلي يتهاوى، كأن خيوط المنطق قد قُطعت وانفرطت كل الأفكار. تجمدت في مكاني، صرت كمن وقع في فخ من الهمسات المتصادمة؛ أمنثيس وحتعنيس يتصارعان كقوتين تتعارضان في عالمي، وأصبحت لا أفهم مما يقولانه إلا همسات متناثرة، وأصداء عميقة تتلاشى دون أن تترك معنى....
...ازدادت أصواتهما حدة، وأحسست بالدوار يجتاح رأسي، حتى شعرت بأن وعيي يغيب ويتسلل كالماء من بين أصابعي، وأصبحت عاجزًا عن الفهم؛ انفصلت الكلمات عن معانيها، والضجيج غمر عالمي، وأنا، وسط ذلك كله....
...تهاوى جسد درينال على الأرض كزهرةٍ انحنى ساقها فجأة، غارقًا في ظلمةٍ ثقيلةٍ، فقد وعيه كمن غاب عن الدنيا وتلاشى صدى كلماته وسط عتمة لا حدّ لها. ساد الهدوء بين أمنثيس وحتعنيس، كأنهما في اتفاقٍ صامتٍ أمام جثةٍ بلا حياة، تكسوهما ملامح حذرٍ وتربص....
...قطب أمنثيس حاجبيه، ونظر إلى حتعنيس بعينين تغليان بالقلق والاحتقان، ثم زفر قائلاً: “تبا لك، لقد أوقعتنا في مصيبة لا مخرج منها! ما الذي سنفعله بهذا الآن؟”...
...ابتسم حتعنيس ابتسامةً خبيثةً، تقطر من ملامحها خبثٌ يتلألأ كخنجرٍ مسموم، واقترب من جسد درينال المُغشى عليه. قال بصوتٍ ناعمٍ أشبه بصوت حيةٍ تتلوى:...
... “أنا أعرف جيدًا ماذا سأفعل.”...
Comments