شخصياتي الشيطانية
...ما إن ولج جدي إلى المكتبة حتى تهاوت الكتب من الرف السادس بعنفٍ مباغت، متناثرة في أنحاء المكان كأنها أوراقٌ جافة اقتلعتها رياحٌ خفية. راحت الصفحات تتمزق ببطء، تتجرد من مواضعها وتتجمع في دائرةٍ قرمزية داكنة اللون، تحوم بهدوء كأنما تُغري بخطرٍ قادم. استقرت تلك الدائرة الصامتة في بقعة محددة، تحوم حول نفسها إلى أن دخل جدي في قلبها، فاستقرت كأنها تترقب شيئًا أكبر. ثم بدأت تتحرك على نحوٍ فيزيائي معقد، تتلوى وتدور، وانبعث من حركة الأوراق أنينٌ كأنه رجع صدى من العصور الغابرة....
...همس جدي ثلاث مرات باسم “نفرامون” بصوتٍ بطيء مهيب، فاهتزت الأجواء كأنها استجابةً خفية لندائه. عندها، تحركت الكتب بتناسق غريب، تتصاعد وتتراكم لتشكّل مستطيلًا هندسيًا بديعًا. وفي وسط المستطيل، لمع ضوءٌ أبيضٌ ساطع كالبرق في ليلةٍ ظلماء. فجأةً، تململت الرمال السوداء في قلب الضوء، تنساب ببطء ككابوسٍ حسيّ يتسلل إلى الوعي، وتجتمع لتصوغ جسدًا طويلًا، نحيلًا، بملامح غارقة في غموض الأزمنة القديمة....
...ظهر كيانٌ يكسوه زيٌّ قديم من زمن الفراعنة، يعلوه تاجٌ بهي على رأسه، وشعرٌ أبيضٌ كالثلج يسيل على كتفيه بهدوءٍ. في يده صولجانٌ أزرقٌ داكن، تتصدره رأس أفعى الكوبرا، ملامحها المتجمدة تراقب كأنها حية تنتظر الانقضاض. كانت عيناه محاطتين بالكحل الأسود، داكنتين كالعتمة، وحين فتحهما، رأيتُ الموت ذاته ينظر إليّ بنظرةٍ تُعري الروح وتخترق الأعماق. شعرتُ بروحي تنسل من جسدي، تتشبث بخيطٍ واهن من الحياة، فحدتُ بصري عن عينيه، عاجزًا عن النظر مجددًا....
...حينما تكلم، انبعث صوته كهمس الرياح العابرة، كصدى من أطراف عالمٍ آخر. سأل بصوتٍ واهنٍ يكاد لا يُسمع: “لِمَ طلبتني؟”...
...بدت الدهشة على وجه جدي وهو يجيب: “أنا بحاجةٍ إلى مفتاح المقبرة!”...
...دهشتُ، ففي بلادنا، لا وجود لأي مقابر، إذ اعتدنا حرق موتانا حتى يتحولوا إلى رمادٍ يتلاشى مع الرياح، فلا تبقى للعظام أثر. رمق “نفرامون” جدي بنظرة باردة وأجاب بصوتٍ يحمل من الخطر أكثر مما يظهر: “قلتُ لك، ينبغي أن تُتمّ مهمتك أولًا. لا يمكنك أن تدخل إلى أرض المميت قبل أن تُثبت ولاءك، فهذه هي شريعة مملكة سيراليس.”...
...ما إن نطق هذا الاسم، حتى هبّ في قلبي شعورٌ لا يُقاوم بالهرب. ارتعدت أوصالي، واندفعتُ خارج المكتبة لا ألوي على شيء، لا أدري ما أصابني في تلك اللحظة، لكنني لم أتوقف حتى شعرت بقلبي يهدأ، تاركًا خلفي صوت جدي وكلماتٍ حُفرت في وجداني إلى الأبد....
...اندفعت إلى المنزل كعاصفةٍ هوجاء، وقد سيطرت عليّ رهبةٌ لم أعهدها من قبل، تتناهبني الأفكار ويغمرني شعورٌ بالفزع يكاد يُثقل خطواتي. كانت أنفاسي متسارعة، أسمع دقات قلبي كأنها طبولٌ تدوي في صدري. أسرعت إلى الدرج وصعدت بخطى متعثرة، كأنما الأرض تميد من تحتي، وكاد جسدي المنهك أن ينهار من فرط الانفعال. وقفت للحظات، ألتقط أنفاسي، غير مدركٍ لما حولي سوى رغبةٍ ملحة بالوصول إلى غرفتي، ملاذي الوحيد....
...فجأة، انطلق صوت أمي، مرتعبًا وحائرًا، يناديني من الأسفل، تسري فيه نغمة قلق لم أسمعها من قبل: “درينال! درينال! هل أنت بخير؟” كانت تتلهف لسماع صوتي، لتطمئن على أنني على ما يرام. لكنني لم أستطع الرد، فقد كانت الكلمات عالقةً في حلقي، أسيرةً لرعبٍ غامض لا أستطيع الإفلات منه. تسللت إلى غرفتي ببطء، وأغلقت الباب خلفي كأنني أبتغي أن أعزل عني العالم وما فيه....
...ألقيت بنفسي على سريري ولففت الغطاء حولي بإحكام، كأنما أتوارى من شيءٍ يطاردني، شيءٍ يزحف في الظلال ويتربص بي. حاولت طرد كلمات جدي الأخيرة من ذاكرتي، لكن صداها ظل يتردد في أعماقي، كريحٍ عابرة تأبى السكون....
...بينما أنا غارقٌ في دوامة الهلع، اقتحم أخي الأصغر غرفتي، ضاحكًا، مشاكسًا كعادته، يهتف بنبرةٍ لا تخلو من السخرية: “درينال، الفتى الجبان! درينال، الفتى الجبان! هيا، انهض، لماذا تتغطى كالأطفال؟”...
...كلماته كانت كإبرٍ تغرز في روحي المرهقة، لكنها بدت بعيدة، كأنني أسمعها من قاع بئرٍ عميق. لم أكن أرى سوى ظلال المشهد الرهيب الذي شهدته، كانت صور “نفرامون” تلاحقني حتى في ظلمة غرفتي، تتسرب إلى أفكاري وتحتلها بلا هوادة....
...أطبق الليل بظلامه الكثيف على أنحاء المدينة، كأنه عباءة سوداء تسدل على كل شيء، تبتلع الأصوات، وتخفي الحركة. نهضت من سريري، إذ أيقظني العطش الشديد وجسدي المبلل بعرقٍ ثقيل يُرهقني بثقله ويترك ملابسي مشبّعةً برائحةٍ كريهة. تقدمت ببطء نحو المرآة، متثاقل الخطى، وأنظر إلى ملامحي التي غلب عليها الإرهاق. كانت عيناي غارقتين في التعب، وجسدي منهكًا كأنما عبر عالمًا غامضًا من الأحلام المخيفة....
...فاحت رائحة العرق في المكان، وقررت حينها أن أستحم لأستعيد شيئًا من انتعاشي. غير أنني، وفي لحظةٍ غريبة، شعرت بوجود غريب يراقبني من الخلف، كأنما أنفاسًا باردةً تتسلل إلى جسدي لتجمد أطرافي. استدرت ببطء، وقلبٌ يخفق كطبول الحرب في صدري، وهناك، على فراشي، تراءى لي كيانٌ غريب، راقدًا على السرير بملامحٍ لامبالية كأنما المكان ملكه....
...تجمدت في مكاني، وجسدي استسلم لهيبة الرعب، فيما تسللت كلماته إلى مسامعي بصوتٍ خافت، محملًا بسخرية لاذعة: “يا إلهي، يا لها من رائحة كريهة تعجبني! هل تجرأت وبُلت على نفسك، أم أنها رائحة عرقك؟ ليس بالأمر المهم. ثم نظر حوله بازدراء وقال: لديك غرفة ضيقة، صغيرة جدًا، أما في عالمي، فأنا أمتلك قصورًا عظيمة تسعني أنا وحدي.”...
...انتفض قلبي من وقع كلماته، إلا أنني ظللت ساكنًا، مأخوذًا بحالة الذعر، في حين كان هو يتحرك حولي بهدوء مرعب، ملتفًا كالأشباح التي لا يسمع لها وقع، كأنه جزء من الظل ذاته، لكنه يملك ذلك الصوت الهادئ الذي يقطر برودًا....
...تابع حديثه، بنبرة تنضح بالسخرية: “آه، عذرًا، لم أعرفك بنفسي. أنا أمنثيس، يمكنك مناداتي بـ’أمني’، الصغير المدلل لعائلة واسبي، وكم أشعر بالراحة بعد أن حررتني. هنيئًا لك، لديك الآن ثلاث أمنيات، يمكنك طلب أي شيء لتراه محققًا أمام عينيك.”...
...في تلك اللحظة، استعاد عقلي سيطرته، أدركت أنه شيطان، شيطان قد أطلقت سراحه بطريقةٍ ما، لكنها غابت عن ذهني كأصداء حلمٍ مضطرب. زال الخوف من أعماقي، وعوضته نبرة تحدٍ لم أكن أملكها قبل قليل، فقلت له بثبات، وعيناي تخترقان عتمة عيناه اللتين تراقبانني كأفعى: ...
...“وماذا تريد مني؟“...
Comments
الحياه حلوه
الروايه احسها راح تكون كثير حلوه♥️
2024-10-27
0